هذا الإعصار الأمريكى


محمد حسنين هيكل

أسلوب جديد في إستخدام السلاح لكي يمكن فهم وتحليل مشهد هذا الإعصار الأميركي الذي يضرب المنطقة العربية هذه اللحظة (أبريل 2003) فقد يلزم الاتفاق كمقدمة على مجموعة من الطبائع والأحوال، وبقع اللون والظل والفراغ في هذا المشهد حتى تبين الصورة وتتضح التفاصيل

ومع أن مشهد هذا الإعصار الأميركي العاتي فيه الكثير مما هو مألوف ومعروف إلا أنه في بعض الأحيان وعندما تحل الطوارئ يكون استرجاع المألوف والمعروف ضروريا ولازما لسببين:

من ناحية إعادة التأكيد حتى مع محظور التكرار.

ومن ناحية ثانية فرز المألوف المعروف عما هو طارئ مستجد وذلك هو الطلب!

1 وبداية فإنه يلزم الاتفاق على أن حركة التاريخ مجرى إنساني عريض وعميق صبت فيه الجماعات والشعوب والأمم ملكاتها الفكرية والعقلية، ومنجزاتها في العلوم والتكنولوجيا، وما حققته من حصيلة الإنتاج والتراكم، وما تجمع لديها من مطالب القوة والتفوق محفوفة بما توافر لديها من حكمة وقيم وفلسفة وفن.

2 ثم إنه يلزم الاتفاق أيضا على أن التدافع الهائل للحركة الإنسانية عبر التاريخ هو الذى سمح بظهور مجتمعات ودول وإمبراطوريات ضخمة برزت على طول مجراه، وأن هذه المجتمعات والدول والإمبراطوريات حافظت وأضافت في أحوال صعودها أو انحلالها على مستودع ذاكرة إنسانية متعددة في منابعها الثقافية متلاقية في مجرى واحد أصبح منهلا وموردا لكل من يريد أن يدرس ويستوعب قصة الحضارة من بدايتها وحتى اللحظة الراهنة.

3 ويلزم الاتفاق بعدها مباشرة على أن قصة الحضارة يقوم على تمثيلها كل بطل علا صيته في زمانه. وفي أزمنة قريبة فإن تمثيل الحضارة الإنسانية تجلى مرة بملامح فرنسية على عهد <<لويس الرابع عشر>>، ومرة بملامح إنجليزية على عصر <<فيكتوريا>>، وأخيرا تجلى بملامح أميركية ابتداء من رئاسة <<فرانكلين روزفلت>> للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية دون أن يعني ذلك أن عصور <<لويس الرابع عشر>> أو <<فيكتوريا>> أو <<فرانكلين روزفلت>> هي كاتبة النص الحضاري فذلك النص كتبته الثقافات الإنسانية جمعاء، وتعاقب على تمثيله النجوم مع اختلاف العصور، وقامت عليه الإمبراطوريات بأحكام التقدم والغلبة!

4 ويلزم الاتفاق كذلك على أن الإمبراطورية الأميركية حلقة أخيرة في سلسلة متوالية من الإمبراطوريات لكن هذه الإمبراطورية الأميركية جاءت لأول مرة في التاريخ مستغنية عن وطنية شعب على أرض أو جامع أمة بعلاقة قرابة أو لغة أو تاريخ، لأن قيامها بالدرجة الأولى لم يكن له رابط غير المصلحة تعبر عنها <<السوق>> في نهاية المطاف، وكان توسيع السوق هو حافز الحرب الأهلية الأميركية كي تضم الجنوب الزراعي إلى الشمال الصناعي وتتمدد غربا، ثم تعبر المحيطات إلى عوالم أبعد أي سوق أكبر.

5 ويلزم الاتفاق أخيرا على أن هذه الإمبراطورية الأميركية وبأحوال وظروف نشأتها وصعودها، أخذت بنزعة القوة لبلوغ غاياتها حتى وإن جاء ذلك على حساب قيامها على التراكم الحضارى الإنساني، ولأن منطق السوق الذي هامت غراما به هو بطبائعه عملية إزاحة لأي منافسة وإصرار يسعى بالضرورة نحو سيطرة غير مشروطة وذلك طبع الاحتكار.

وكان استعمال القوة في عهود إمبراطورية سبقت مغلفا على الأقل باعتبارات ملاءمة إنسانية جرى عليها العُرف واستقرت التقاليد.

? وفي هذا الموضع أتذكر حوارا أشرت إليه من قبل دار بيني وبين القائد العسكرى البريطاني ذائع الصيت الماريشال <<مونتغمري>> (بطل العلمين، وهي واحدة من أهم معارك الحرب العالمية الثانية وقد جرت على صحراء مصر الغربية خريف سنة 1942 ضد الجيش الألماني) وفي هذا الحوار أورد الماريشال العتيد ما أظنه نوعا من التوصيف <<المحترم>> لشروط استعمال القوة المسلحة (الحرب) وقال الماريشال في كلامه:

<<إنه لا بد في استعمال قوة السلاح من توافر عناصر مبدئية لتسويغ الحرب مؤداها: أن يكون لدى شعب أو أمة أو إمبراطورية هدف مطلوب سياسيا، وممكن عمليا، وجائز قانونيا، ومبرر أخلاقيا>>. ومع أن القوانين والأخلاق في ما سبق من تجارب التاريخ تعرضت للذرائع والأهواء، إلا أن استعارة مبادئها حتى تعسفا لم يغب قط عن ساحات الحرب

. وبساتر المبادئ فإن الحروب الاستعمارية لم تكن للاستيلاء على موارد وأقدار شعوب وإنما كانت <<لنشر الحضارة في قارات الظلام>>، أو <<منع الرق>> وتحريم استغلال الإنسان للإنسان (رغم أن الجماعات المهيمنة لم تؤرق نفسها ببؤس الرق إلا عندما اطمأنت إلى أن طاقة البخار حاضرة لتعويض عضلات العبيد، وأنها كذلك طاقة أرخص!).

وعلى نفس القياس فإن الحرب العالمية الأولى لم تكن مذبحا هائلا للبشر من أجل توزيع المستعمرات وإنما كانت حربا من أجل الحرية والتحرر.

والحرب العالمية الثانية التي انتهت بكابوس نووي، لم تكن حربا ورثت بها أميركا ما سبقها من إمبراطوريات وإنما كانت حربا لتصفية شرور النازية والفاشية.

والمعنى أن الحروب على طول التاريخ، احتاجت إلى سواتر أو ذرائع قانونية وأخلاقية أو شبه قانونية وأخلاقية، وأما في حالة الإمبراطورية الأميركية فإن استعمال القوة مع تركيزها أو احتكارها جاء مكتفيا بما لديه، مستغنيا عن أية إضافات إنسانية <<جمالية>> فوقه! ? وهنا فإن منطق القوة الأميركية حين تمارس دورها عبر عن نفسه بأصرح وأصدق ما يمكن بنظرية الدكتور <<هارلان أولمان>> (وهو أحد المستشارين المسموعين في البيت الأبيض، وفي الأصل أستاذ علوم سياسية في كلية الدفاع الوطني) وكان تعبيره عن نفسه أقرب إلى البوح بحيث يصح أن يستعاد للتذكر والتفكر.

فقد كتب الدكتور <<أولمان>> مذكرة بعنوان <<الصدمة والرعب>> (Shock and awe) وُضعت أمام الرئيس الأميركي ونشرتها الصحافة الأميركية (وبينها جرائد نيويورك تيمس، وواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تيمس) وفيها يقول بالنص:

<<إن الولايات المتحدة عليها أن تستعمل أقوى شحنة من القوة المكثفة والمركزة، والكاسحة بحيث تنهار أعصاب أي عدو يقف أمامها، وتخور عزيمته قبل أن تنقض عليه الصواعق من أول ثانية في الحرب إلى آخر ثانية، ويتم تقطيع أوصاله وتكسير عظمه وتمزيق لحمه دون فرصة يستوعب فيها ما يجري له!>>.

ومن المقلق أن الدكتور <<أولمان>> ظهر بنفسه على شبكة C.B.S (وهي أكبر شركات التليفزيون الأميركية) في 9 فبراير الماضي يتحدث عن <<نظريته في الحرب>> مركزا على عدة شروط: أن استعمال أقصى درجات العنف من أول لحظة كفيل بتوليد إحساس بالعجز لدى العدو، يجعله مأخوذا بطغيان تفوق عليه لا مثيل له (ولعل ذلك الأثر هو المقصود من مشاهد الحشد العسكرى الأميركي المتوحش حول العراق من قبل بدء أية عمليات، والظاهر أنه أحدث أثره ساحقا في عدد من العواصم العربية وصلت إلى التسليم اليائس بأنه طوفان كاسح لا يمكن إيقافه ومن قبل أن تقتحم الجيوش حدود العراق!).

أن تكون بداية الضربة الأولى على بغداد حاملة ل 800 صاروخ من طراز كروز متلاحقة على مدى يومين أي بمعدل صاروخ كل أربع دقائق، وفي هذين اليومين طبقا لأولمان فإنه لا بد من تدمير كافة محطات الطاقة والماء، وعليه فإنه عندما يجيء اليوم الثالث يكون <<سكان العاصمة العراقية قد تأكد استهلاكهم نفسيا ومعنويا قبل ماديا وجسمانيا>>.

والأثر الذي يجب أن تُحدثه اللحظة الأولى من الحرب، لا بد أن يكون مقاربا لأثر قنبلة هيروشيما التي أقنعت القيادة العليا اليابانية والإمبراطور <<هيروهيتو>> بأن حياتهم ذاتها تحت رحمة الغزاة، وفي رأي <<أولمان>> أن ذلك ممكن في حالة العراق حتى إذا لم يقع استعمال قنابل نووية، اكتفاءً <<بأسلحة متفوقة>> لها قوة فتك غير محدودة.

ثم يختم الدكتور <<أولمان>> شرحه لنظريته في حديثه التليفزيوني بقوله: <<إنه قام بتدريس منهج كامل عن نظريته لكبار القادة السياسيين والعسكريين في كلية الدفاع الوطني، وكان بين الجالسين على مقاعد الدرس والتحصيل أمامه: <<كولين باول>> (رئيس هيئة الأركان السابق في إدارة بوش (الأب)، ووزير الخارجية الحالي في إدارة بوش (الابن)!>>.

(وذلك في الوقت نفسه حتى تتصل الجذور بالفروع منطق يختصر الوقت، ويقلل في التكاليف، ويوفر الخسائر في أرواح المهاجمين الذين تربوا على أن الوطن مساهمة في شركة وليس تضحية بدم).

6 يجيء بعد ذلك في سياق ما يلزم الاتفاق عليه أن هذه الاستراتيجية في استعمال القوة المسلحة الصاعقة، لم يكن ممكنا تطبيقها في زمن الحرب الباردة، لأن وجود الاتحاد السوفياتي في مواجهة الإمبراطورية الأميركية فرض درجة من التحفظ استوجبها ميزان الرعب النووي.

ومع أن كلا من <<القوتين الأعظم>> زمن الحرب الباردة، كلتاهما اهتمت بالحروب المحلية المحدودة وربما شجعتها وحرضت عليها كميادين لاختبار القوة، واحتلال أو إخلاء المواقع، فإن <<الإمبراطوريتين الأكبر>> في نفس الوقت وعلى امتداد قرابة نصف القرن حرصتا على حصر دائرة النار وإبعادها بكل وسيلة عن خط التماس المباشر بينهما.

وهكذا فإن الصراع بين الإمبراطوريتين إمبراطورية السوق وإمبراطورية الشيوعية دار بالوساطة، ودار بالأساليب الخفية والنفسية والاقتصادية، أملا في اتقاء المحظور وتجنب الدمار المتبادل في جحيم نووي! 7 وأخيرا يلزم الاتفاق على أنه في تلك الفترة الحرجة (من الحرب الباردة) فإن الولايات المتحدة الأميركية، منحت تفويضات مفتوحة في مناطق مختلفة من العالم لقوى إقليمية كلفتها بدور رجل البوليس المحلي ينوب عنها في استعمال السلاح عندما تقتنع الولايات المتحدة بأن دور السلاح قد حان في التعامل مع بؤر مقاومة في إقليم معين ثم إنه في إطار هذه التفويضات برز دور إسرائيل في الشرق الأوسط قبل أي وكيل غيرها (مثل كوريا الجنوبية أو جنوب أفريقيا العنصرية أو إيران الشاهنشاهية)، وزاد أن إسرائيل نتيجة اعتبارات إضافية، تمكنت من خلق توافق استراتيجي مع الولايات المتحدة شجعته الإمبراطورية الأميركية واستفادت من نتائجه.

والشاهد أن إسرائيل إلى جانب التوكيل الممنوح لها في حفظ المصالح الإقليمية للولايات المتحدة بدت قادرة بالزيادة فوقه على تعبئة يهود العالم وراء الولايات المتحدة وعلى التأثير في أهم وسائل الإعلام والترفيه وعلى جمع المعلومات من قلب الاتحاد السوفياتي ومحيطه ومستعدة لأية مهمة تكلف بها دون تدقيق في المقاييس والمعايير وذلك خلق في الشرق الأوسط ضمن ما خلق تناقضا بين الحقائق وخللا في الموازين: بحكم أن المصالح الأميركية كلها عند العرب، وتأمين نفس المصالح موكول إلى إسرائيل مع تفويض لها تتصرف كما ترى أو كما يُطلب منها!

! سباق بين البيان والإعلان

بعد ذلك وفي طلب مزيد من الفهم والتحليل لمشهد هذا الإعصار الأميركي العاتي الذي يضرب المنطقة العربية، فقد يكون مطلوبا استعادة بعض المشاهد بعد لزوم الاتفاق على مقدمة له سبقت. ومع أن المشاهد فيها بدورها ما هو مذكور ومشهور، إلا أن مراجعة المذكور والمشهور قد تكون ضرورية لسببين أيضا:

استثارة الذاكرة وتحفيزها من ناحية. والربط والوصل بين المواقف إذ يتضح سياقها من ناحية ثانية. 1 وعلى سبيل المثال فقد يكون مطلوبا استعادة أسلوب الدعوة والترويج الذي اتبعته القوتان الأعظم في فترة الحرب الباردة، لأن الحرب الباردة كانت على الواجهة محاولة من كل طرف لتقديم نفسه للعالم، وتزكية نظامه أمام الشعوب، وتصويره على أنه شكل المستقبل، وبضرورة الأشياء فقد كانت طبيعة كل واحدة من القوتين موجهة لأسلوبها في الدعوة والترويج.

وفي حين أن الإمبراطورية الشيوعية اعتمدت أسلوب التبشير بفردوس تصنعه الطبقة العاملة بريئا من الاستغلال فإن الإمبراطورية الأميركية وهي بالدرجة الأولى <<إمبراطورية سوق>> اعتمدت أسلوب الإعلان في توزيع وبيع السلع! وفي حين أن الإمبراطورية الشيوعية أخذت بالخطب الرنانة والبيانات الحماسية، يجيء ختامها دائما هتافا بالتحية <<لنضال الشعوب>> و<<بسالة كفاحها>> فإن الإمبراطورية الأميركية أخذت بفنون الإعلان، وأهمها أنه شعار واحد يقول كل شيء في عبارة واحدة مختصرة تستثير صورا حافلة بالتشويق والإثارة.

وفي حين أن الفردوس الشيوعي (مثل أي نعيم مقيم) مؤجل إلى ما بعد إتمام <<بناء الشيوعية>> فإن السلع الأميركية معروضة للكافة وفي إيحاءاتها أن شكل زجاجة الكوكاكولا وحده وإلى جانبه عبارة <<هي الأصل>> جاهز لاستدعاء مذاق منعش، وأن صورة ملونة للهامبرعر وإلى جانبها عبارة <<لحم صاف>> جاهزة لاستدعاء الشبع والامتلاء، (بل إن صورة الشارة المعدنية الصغيرة لسيارة كاديلاك جاهزة دون زيادة كلمة واحدة، لخلق جو من الفخامة والعز يجري على أربع عجلات!).

وبالفعل فإن معروضات السوق الجاهز فعلا، تمكنت من إزاحة وعد الفردوس المنتظر!

كان أسلوب الإعلان الأميركي يقول كل شيء في عبارة واحدة أو صورة واحدة، وكان البيان الشيوعي وعدا مبهما يكرر ويزيد إلى درجة القتل بالملل! ومن المدهش أن الإعلان الذي يكتفي بعبارة واحدة وصورة واحدة، أدى في مجال السياسة إلى مشاهد ملفقة، لكنها اعترافا بالواقع حققت غرضها.

? وأتذكر أيام كنت أغطي وقائع الثورة الإسلامية في إيران أنني صادفت طواقم عدد من شركات التليفزيون الأميركية تبحث في <<طهران>> و<<قم>> و<<أصفهان>> عن مظاهرات تحرق العلم الأميركي، وكانت تلك هي الصورة المطلوبة لإظهار أن الثورة الإسلامية عدو للولايات المتحدة وللغرب، وبالتالي فإن الرأي العام الأميركي والأوروبي عليه أن يعاديها. وفي مرة من المرات في ساحة <<الشاهياد>> في طهران، صادفت موقفا لا يكاد يُصَدَّق، فقد وصل طاقم إحدى وكالات التليفزيون الأميركي جاهزا بمصوريه وعدساتهم، واللافت أنهم جاءوا معهم أيضا بمجموعة من الأعلام الأميركية يسلمونها بأيديهم إلى المتظاهرين كي يحرقوها أمام الكاميرات، وكان المتظاهرون بحماستهم متلهفين على تخاطف الأعلام الأميركية وإشعال النار فيها إظهارا لمشاعرهم، دون أن يخطر لهم أنهم وقعوا غير مدركين في شراك فخ الصور، الذي يبغي تسجيل المشهد الذي يقول كل شيء ويعبر عن كل <<واقع>> في لقطة واحدة. وفي الممارسة العملية فإن الخطاب على الناحيتين لم يلبث أن فقد مصداقيته:

فخطاب الإعلان الأميركي ظل سطحيا كالقشرة يحرض على شراء سلع، ولا يستطيع تأصيل قيم.

وخطاب البيانات السوفياتي أصبح تناقضا مع الواقع يبشر بالجنة ويسوق الناس نحوها على الطريق بعصا غليظة (على حد تعبير الزعيم السوفياتي <<نيكيتا خروشوف>> في نقده الشهير للزعيم الشيوعي <<جوزيف ستالين>>!).

1 ولعل نفس الكلام يصدق من ناحية أخرى على الرئيس الأميركي الحالي <<جورج بوش>> ففي خطابه العام دعوة تقول إنها تريد تكريم الشعوب العربية بنعمة الديموقراطية ولكن بإطلاق الصواريخ على من تشاء بينها!.

وفي مجال الخطاب بعد مجال الصور، فإن أسلوب الكلمة الواحدة زاد واستفحل، لأن أي معترض على السياسة الأميركية لاحقه وصف واحد يدمغه مرة بأنه <<شيوعي>>، أو <<إسلامي>>، أو<<إرهابي>> إلى آخر القائمة.

كما أن أي رافض لهيمنة واشنطن أعيدت تسميته ب: <<هتلر>> أو <<موسوليني>> أو <<ستالين>> أو<<أسامة بن لادن>> أخيرا، وكأن لا فارق بين صروح برلين وكهوف قندهار، ولا بين الجيش السوفياتي وجند طالبان، ولا بين أرقى القوانين الرومانية وفتاوى <<المُلا عمر>> بأن الأرض مسطحة وليست كروية، كما يزعم <<أهل الكفر>>!?.

2 وقد يكون من المطلوب أيضا استعادة ما ظهر من أن فنون <<الإعلان الأميركي>> تفوقت بشدة على وعد <<الفردوس الشيوعي>>، وبرغم ذلك فإن إمبراطورية السوق ظلت تواصل الضغط ضد الخطر السوفياتي وتبالغ فيه، حتى وقت لم يعد باقيا فيه من هذا الخطر غير ترسانة نووية ضخمة مهددة بالشيخوخة بسبب نقص الموارد ومن باب الحيطة فإن هذه الترسانة المتهالكة بقيت في الظنون، باحتمال أن زعيما سياسيا يائسا أو جنرالا عسكريا مجنونا قد يقوم في اللحظة الأخيرة بمغامرة ابتزاز حمقاء يقترب فيها بأصابعه من الأزرار الحمراء، واضعا الدنيا على حافة هاوية! ولم تجد الولايات المتحدة طمأنينة وهي تتابع مرور عشرين سنة من الركود الكبير قضاها الزعيم السوفياتي المريض <<ليونيد بريجنيف>> على القمة في الكرملين.

ولم تجد الولايات المتحدة طمأنينة حتى وهي تتابع المواكب الجنائزية لقادة سوفيات (<<بريجنيف>> و<<تشيرنينكو>> و<<أندروبوف>>) بعد أن وصلوا إلى القمة، وقد أخذت منهم السنون والعِلل ضرائبها، وراحوا يموتون واحدا بعد واحد.

ففي تلك الأوقات كانت الترسانة النووية السوفياتية الضخمة سيفا معلقا، واحتمال وصول زعيم يائس أو جنرال مجنون إلى شفرة تشغيلها واردا ومؤرقا!

3 ومن المطلوب استعادة لحظة سقوط حائط برلين (9 نوفمبر 1989) وسقوط الاتحاد السوفياتي نفسه بعد ذلك بسنتين، عندما آلت قيادته إلى رجلين، أولهما واقعي إلى درجة الاستسلام يهيئه الضعف واليأس (غورباتشوف)، والثاني خيالي إلى حد الأوهام ومعظمها يهيئه إدمانه للفودكا (يلتسين) ومع ذلك ظلت الولايات المتحدة الأميركية غير مصدقة للمشهد الذي تراه أمامها ويراه العالم بأسره.

وظل البيت الأبيض وفيه أيامها الرئيس <<رونالد ريغان>> مأخوذا بهذه الصورة المذهلة لما يجري داخل وخارج أسوار الكرملين. وكان أكثر ما فاجأ واشنطن أن الرجلين الباقيين على دفة الإمبراطورية الشيوعية (يلتسين وغورباتشوف) كلاهما راح يستعين بها ضد رفيقه، ومن جانبها فقد كان مُناها الخلاص من الرجلين معا، وفي نهاية المطاف تكفل كلاهما بإنجاز المهمة وتحقيق المُنى.

ومع أن المعلومات المتدفقة على المكتب البيضاوي مكتب الرئيس في واشنطن كانت مؤكدة ومفصلة في رصدها للسقوط الكبير فإن كافة أجهزة الإدارة الأميركية حول البيت الأبيض، وفيها وزارة الدفاع (البنتاغون)، ووزارة الخارجية، ووكالة الاستخبارات الأميركية (C.I.A) ظلت تفرك جفونها تتأكد أن ما تراه هو الحقيقة، ثم كان أول همها وسعيها بعد أن ثبتت الرؤية إبداء اللهفة على مصير الترسانة النووية السوفياتية، والهرولة على عجل بعروض مساعدة على تأمينها (إزاء عمر افتراضي قارب أجله) وخوفا من مجهول يمد أصابعه إلى زر أحمر مع لحظة مزاج انتحاري!

4 ومن المطلوب استعادة حقيقة لا يصح أن تغيب عن الاعتبار، وهي أن الصراعات الكبرى بين إمبراطوريات التاريخ الكبرى وحين تستحيل المواجهة المباشرة بالقوة ترتبط نتائجها بمعادلة معروفة في علم الصراع. فهي ليست معادلة نصر أو هزيمة بالمعنى التقليدي، وإنما هي اختبار صبر وقدرة على الاحتمال.

(وتلك حكمة مأثورة في الأدب العربي ترى <<أن الشجاعة في القتال بين اثنين يقع حسمها عندما يصرخ أحدهما أولا!>>).

أي أن المعول عليه في ختام أي صراع بين طرفين منوط عند نهايته بمن يفقد إرادته قبل غيره، ومن يلحقه الوهن تالياً! وقد ترامت إلى أسماع واشنطن في تلك الظروف صرختان بالألم صادرتان عن موسكو تلاحقتا بفارق سنوات قليلة:

? صرخة من <<غورباتشوف>> بأنه لم يعد يستطيع! ? وصرخة ثانية من <<يلتسين>> بأنه فقد الأمل!

? بمعنىِ أن الطرف الأميركي كان لديه بدوره ما يدعوه إلى الصراخ من مواجعه وآلامه، لكنه تحمل ولم يصرخ حتى سمع صرخة خصمه قبله، وبالفعل فقد حدث في بداية التسعينيات وكان <<رونالد ريغان>> قد ترك مكانه في المكتب البيضاوي لنائبه <<جورج بوش>> (الأب) أن الولايات المتحدة وجدت نفسها مثقلة ومستنزفة.

فقد تبين لها أنها مدينة للعالم بما يزيد على مجمل إنتاجها السنوى (5 تريليون دولار).

وتحققت من أن اقتصادها في عمومه تأثر بالضرر (بما جعل سقوط <<جورج بوش>> في انتخابات الرئاسة الثانية محققا على أساس شعار أطلقه <<بيل كلينتون>> ب <<إنه الاقتصاد يا غبي>>).

واكتشفت أن نظام التعليم الأميركي تراجع في جدول الأسبقية العالمية من المكانة الأولى إلى المكانة السابعة عشرة.

وتبدى لغيرها ولها أن لعبة السياسة المعتمدة على الإعلان بعد نصف قرن من الحرب الباردة نزلت بمستوى الأداء وجعلته هو الآخر صورا متحركة تكلف مالا وتصنع خيالا. ولعل سطوة الإعلان وغوايته كانت من أهم العناصر التي هزمت رمادية <<جورج بوش>> (الأب)، إزاء الألوان الخلابة (والفاضحة في ما بعد) لحيوية وشباب <<بيل كلينتون>>.

وأهم من ذلك كله فإن الولايات المتحدة ظهرت خارجة من الحرب الباردة وقد استنزفت كثيرا من أرصدتها السياسية (وأولها المصداقية)، كما استنزفت كثيرا من مدخراتها (وأهمها احتياطي الذهب في فورت نوكس)، ثم إنها وهذا هو الأخطر أسرفت في استعمال الطاقة حتى أصبحت مستوردة للبترول بقرابة 80% من احتياجاتها.

وكان ذلك يقتضي مراجعة، ويلح في طلب حل، وإلا فإن <<إمبراطورية السوق>> معرضة لإشهار إفلاسها.

5 ومن المطلوب أيضا استعادة مناخ التبرم والضيق والغيظ مما شعرت به الولايات المتحدة حِيال حلفاء لها في أوروبا اعتبروا انهيار الاتحاد السوفياتي انتصارا لهم، دون أن يتنبهوا بالقدر الكافي لنوازع الولايات المتحدة في تلك اللحظة الفارقة. ذلك أنهم وهم يحتفلون بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، لم يظهر عليهم (من وجهة النظر الأميركية) إدراك لحقيقة أنهم يحتفلون بنصر لم يصنعوه، ولم يتحملوا تكاليفه، بل إنهم على العكس استفادوا على الحساب من حيث إن الولايات المتحدة وفرت لهم طول الوقت عمليات إنقاذ متوالية ابتداءً من مشروع مارشال الذي أسعفهم فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى ضبط أسعار بترول رخيص أتاحته لهم الولايات المتحدة من أسواق الشرق الأوسط التي استحوذت عليها. ثم إن هذا الدعم ظل متاحا حتى في أعقاب حرب أكتوبر 1973 عندما قفزت أسعار البترول، (وبعدها وقف الدكتور <<هنرى كيسنجر>> وزير خارجية الولايات المتحدة في مؤتمر باريس لتدوير فوائض النفط العربي (1974) قائلا لدول أوروبا <<إن مشروع مارشال قد انتهى الآن وانتهى معه تطوع الولايات المتحدة بضمان سعر بترول رخيص كان لازما لعملية إنعاش أوروبا) وعلى أي حال فإن هذا المزاج الأميركي الصارم لم يطل أمده ولم يلبث سعر البترول أن نزل من ذُراه العالية ليتيح مرة أخرى وفرة طاقة رخيصة لأوروبا الغربية في وقت دخلت الحرب الباردة فيه إلى مرحلتها الحاسمة مع النصف الثاني من السبعينيات وطول الثمانينيات.

وكانت بقية الدواعي الأميركية إلى التبرم لدرجة الغيظ من الحلفاء الأوروبيين، <<ظنها>> أنهم عاشوا زمن الحرب الباردة في أمان وفرته لهم مظلة نووية أميركية تولت حمايتهم دون أن تكلفهم شيئا، وهذه المظلة لم تكفل لهم الأمن فحسب، وإنما كفلت لهم أن يتوفروا على صنع الثروة وتكديسها، وتجديد وسائل إنتاجهم وتطويرها، وتحسين خدماتهم والارتقاء بها وأولها التعليم. والآن هرعوا للاحتفال على حساب ما أنجزته أميركا وحدها، ثم هم فوق ذلك يحاولون تلقينها درسا في طرائق السلوك والتصرف، ويتبجحون بالرغبة في اعتبار أنفسهم أقطابا دولية أوروبية على قدم المساواة مع أميركا.

وكان معظم الضيق إلى حد الغيظ موجها إلى فرنسا وألمانيا، وأما القوة الأخرى في الثالوث الأوروبي وهي بريطانيا، فقد برئت من اللوم لأنها ألحقت نفسها مبكرا جدا بالولايات المتحدة سواء بقرابة اللغة أو بلغة المصالح.

وكان الحلفاء الأوروبيون لأميركا حاضرين دائما بردود تثير الخواطر أكثر مما تلطفها، فهم يعترفون بفضل المظلة النووية الأميركية، لكنهم يضيفون أن هذه المظلة كانت أمنا لأميركا بالدرجة الأولى، ثم إنها لم تكن بلا ثمن، لأن أوروبا أعطت الكثير وتحملت الأكثر سواء من غموض النوايا السوفياتية أو من تجاوزات القوة الأميركية، ومع ذلك فإن أوروبا في الأول والآخر كانت قابلة بدور متميز لأميركا في قيادة عالم ما بعد الحرب الباردة، ومنتهى طلبها شراكة في المستقبل متكافئة وليس إملاءً إمبراطوريا متعاليا، فهم ليسوا دول عالم ثالث، وإنما هم دول أقدم وأعرق، وثقافات أسبق في الزمن وأعمق، وخبرة أسلم وأعقل!

ثم يضيف هؤلاء الحلفاء <<أن أوروبا في كل الأحوال لم تكن عبئا ثقيلا على الولايات المتحدة، ولم تكن هي التي أرهقت الموارد الأميركية، وإنما أرهقها السباق الفضائي والنووي في ما أسماه <<رونالد ريغان>> <<حرب النجوم>>، ثم إن أوروبا لم تكن هي التي تسببت في استنزاف مخزونات الذهب في فورت نوكس، وإنما حسابات حرب فيتنام ورغبة الرئيس <<جونسون>> في تمويل هذه الحرب بعيدا عن رقابة الكونغرس وذلك ما أدى إلى تذويب السبائك الذهبية، وتسييل مخزونها المتراكم!

6 ومن المطلوب أخيرا في هذا المفصل الدولي الهام، ملاحظة أن التبرم الأميركي والضيق وصل جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه بحيث طال أطرافا عربية متعددة، تحسب أنها تحمست وتطوعت لتحقيق التفرد الأميركي بقمة العالم: ? فمن ناحية كانت هناك دول تظن أنها لعبت دورا هاما في أفغانستان، حيث وقعت الضربة القاضية Coup de Grace ضد الاتحاد السوفياتي تحت رايات الجهاد الإسلامي المقدس الذي أرهق الجيش السوفياتي، ومرغ أنفه في التراب وأوصل الدولة السوفياتية إلى قبرها تحت ذلك التراب. ? ومن ناحية ثانية دول أخرى تظن أنها لعبت دورا أساسيا في وقت تقدم المد الإسلامي الذي مثلته الثورة الإيرانية، وأقامت ضده سدا هائلا مدعوما ماليا ومخابراتيا حتى أوقفته وحصرته، وبالتالي فإن العقيدة الشيوعية لم تركع أمام القنابل النووية للولايات المتحدة، وإنما أرغمتها على الركوع تلك السيوف المشهرة للجهاد الإسلامي الذي وهب بدوره نصر الله للولايات المتحدة! والآن كانت هذه الدول العربية على الناحيتين (الفريق الذى صد الزحف الشيوعي في أفغانستان، أو الفريق الذي حصر التيار الإسلامي في إيران) تتقدم مطالبة بحقوق تعتبرها إنصافا وعدلا!

ولم تكن الولايات المتحدة على استعداد للاعتراف للطرفين بما قدما، ورأيها بأثر رجعي! أن هؤلاء العرب لا يستحقون منها مكافأة، فقد فعلوا ما فعلوا ووقفوا حيث وقفوا دفاعا عن مصالحهم الذاتية، وعن أمنهم قبل الأمن الأميركي، وبالتالي لا تصح لهم بعد ذلك مطالبة بمستحقات متأخرة أو متقدمة. ومن المفارقات أن بعض العرب لم يكونوا يطالبون بحق شراكة بإسهام ما قدموا، وإنما كان قصاراهم طلب الرعاية، وأول أملهم أن تكف الولايات المتحدة الأميركية عنهم أذى إسرائيل وغرورها، مع العلم بأنهم لم يقصروا في حق إسرائيل، فقد اعترفوا بها دون استثناء واعترفوا كذلك بعلاقتها الخاصة بالولايات المتحدة، بل إنهم وبدون استثناء أيضا تعاملوا مع إسرائيل بعضهم في العلن وبعضهم في السر حتى تنفك العقد المتخلفة من القضية الفلسطينية بحيث تدارى أمام الناس وتستر، وحينئذ تكون العلاقات مع إسرائيل شمسا في عِز الظهر وقمرا بلغ ذروته وصار بدرا (وأكثر).

(والغريب أن القيادات العربية المعنية لم تدرك أنها بهذا النوع من <<الأمل>> تزكي إسرائيل وترفع من قدرها وأهمية دورها في نظر الولايات المتحدة، لأن ما جاءوا يطلبونه بعد كل ما قدموا هو بعينه اعترافهم للولايات المتحدة بأنها لم تخطئ في سياستها حين اعتمدت إسرائيل وكيلا لها في المنطقة، وكانت على حق عندما استثمرت في ذلك البلد ما استثمرته من مساعدات مدنية وعسكرية، لأن حساب التفوق الإسرائيلي أضيف في النهاية إلى الأرصدة الأميركية وزاد من قدرتها على ضبط تصرفات العرب رضى أو غصبا!).

المناقشة الكبرى فى واشنطن

بعد الاتفاق على ما يلزم الاتفاق عليه وبعده على المطلوب استعادته فإن هناك لحظة تستحق التوقف أمامها لأنها في الحقيقة توقيت ولادة هذا الإعصار الأميركي العاتي الذي يضرب المنطقة العربية ويدوي الآن رعدا ويلمع برقا على آفاقها. وكان هذا التوقيت بالضبط لحظة سقوط حائط برلين (9 نوفمبر 1989)، وما تداعى بعده من بشائر أو مخاطر، وتدفق طوفانا ذابت فيه جبال الجليد فوق تضاريس الحرب الباردة مرة واحدة. كان <<جورج بوش>> (الأب) لحظتها رئيسا للولايات المتحدة وقد وجد أمامه فرصة نادرة في التاريخ، وعليه أن يتغلب على وساوسه الشخصية ويتقدم صفوف إدارته الجمهورية ويقود، وكان اعتقاد كثيرين أن <<بوش>> ظل حتى بعد سنتين من رئاسته يتحرك في ظل سلفه <<رونالد ريغان>> الذي أدار المراحل الأخيرة من استراتيجية هزيمة الاتحاد السوفياتي بجرأة بلغت حد التهور بمشروع حرب النجوم، وذلك هو المشروع الذى أقنع <<الكرملين>> بعد طول مكابرة بأنه لم يعد قادرا على المضي، إلى النهاية في سباق السلاح، وأن الوقت حان لمواجهة الحقيقة حتى وإن كانت في مرارة العلقم أو لسع النار.

وفي ممارسة <<جورج بوش>> لمسؤوليته فرصة نادرة وجدها أمامه، فإنه وجه الدعوة إلى مجلس الأمن القومي الأميركي لعقد سلسلة من الاجتماعات، مهمتها مواجهة موقف مستجد وطارئ حاسم وفاصل في مستقبل الولايات المتحدة الأميركية ومستقبل العالم

وكان بين حضور الاجتماع رجال ما زالوا من أهم راسمي السياسات وصُناع القرارات في واشنطن من تلك اللحظة سنة 1989، وحتى هذه اللحظة (أبريل 2003)، وضمنهم: <<جيمس بيكر>> وهو وقتها وزير الخارجية (وفي ما بعد مسؤول الحملة الانتخابية لبوش (الابن) وإن لم يقبل بالمشاركة في إدارته). و<<برنت سكوكروفت>> وهو وقتها مستشار الرئيس للأمن القومي (وقد آثر هو الآخر أن لا يشارك في إدارة بوش (الابن) دون أن يفصح عن أسبابه). و<<ريتشارد تشيني>> وهو وزير الدفاع حينئذ (والآن نائب الرئيس).

و<<دونالد رامسفيلد>> وهو أيامها وزير دفاع سابق مع <<ريجان>> (والآن وزير الدفاع مرة ثانية).

و<<كولين باول>> وهو رئيس أركان الحرب حينئذ (والآن وزير الخارجية).

و<<ريتشارد بيرل>> وهو نائب وزير الدفاع (والآن مسؤول هيئة وضع السياسات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، ولقبه الشائع في الإدارة هو <<أمير الظلام>> (Prince of Darkness)).

و<<بول وولفويتز>> وهو مساعد وزير الخارجية حينئذ (والآن مساعد وزير الدفاع).

و<<ريتشارد أرميتاج>> وهو سكرتير مجلس الأمن القومي حينئذ (والآن مساعد وزير الخارجية).

و<<جيمس وولسي>> وهو مدير وكالة المخابرات المركزية حينئذ (والآن مستشار الرئيس لمكافحة الإرهاب). وغيرهم كثيرون كانوا في المواقع المؤثرة والحساسة لإدارة <<رونالد ريغان>>، وانتقلوا منها إلى إدارة <<جورج بوش>> (الأب) ووصلوا أخيرا إلى إدارة <<بوش>> (الابن)، كأن الزمن لم يتغير، وكأن رئاسة <<بيل كلينتون>> لم تقع ولم تتصل ثماني سنوات، ووصل <<كارل روفر>> وهو كبير مستشاري البيت الأبيض (وأقوى رجل في المقر الرئاسي اليوم) إلى حد وصف رئاسة <<بيل كلينتون>> بأنها كانت <<فاصلا جنسيا>>، تخلل عهدين لرئيسين اسمهما <<بوش>>! (مع ملاحظة أن ترجمة كلمة <<بوش>> Bush إلى العربية هي: الخميلة أو الغابة الصغيرة!). في ذلك الوقت من رئاسة بوش (الأب): عقد مجلس الأمن القومي الأميركي خمسة اجتماعات متوالية على مساحة ثلاثة شهور ما بين أواخر سنة 1989 وأوائل سنة 1990، ثلاثة منها داخل البيت الأبيض في واشنطن، واثنان داخل المنتجع الرئاسي <<كامب دافيد>>، وفي ما بين الاجتماعات تواصلت لقاءات <<مجموعات العمل>> الخاصة التي كُلِّفَت بالغوص إلى العمق في تفاصيل القضايا التي تناولتها مناقشات الرئيس وكبار مساعديه، وهي اجتماعات ولقاءات أُطلق عليها في ما بعد وصف <<المناقشة الكبرى>> <>، إقرارا بأهميتها عند مفترق طرق أساسي تتحدد فيه وتتقرر سياسات أميركا في القرن الحادى والعشرين. ولم تكن موضوعات هذه <<المناقشة الكُبرى>> سرا، بل إن الكثير من أوراقها ومداولاتها مع شهادات بعض المشاركين الكبار فيها خرج ليرسم صورة شبه كاملة لما دار حوله البحث وترتبت النتائج. وبصفة أولية فقد كانت لهذه الاجتماعات واللقاءات نقطة بداية سبقت ونقطة وصول لحقت.

? نقطة البداية التي سبقت هي الإقرار بأن السياسة الأميركية تمكنت بعد نصف قرن من تنفيذ التوجيه الرئاسي <<رقم 68 لسنة 1950>> (وهو توجيه صاغه الخبير الاستراتيجي الأشهر <<بول نيتزي>> وقدمه إلى <<دين أتشيسون>> وزير الخارجية الذي وضعه أمام الرئيس <<هاري ترومان>> مع طلب توقيعه واعتماده) وكان نص مقدمة هذا التوجيه يقول: <<إن الهدف الاستراتيجي لسياسة الولايات المتحدة يتحدد في تدمير الاتحاد السوفياتي، وتحقيق تفوق عسكري أميركي كامل عليه!>>.

? و<<نقطة الوصول>> التي لحقت أن هناك الآن مشروع توجيه رئاسي جديد تولت صياغته لجنة خاصة رأسها <<ريتشارد بيرل>> وفيه بالنص:

<<إن الولايات المتحدة الأميركية بعد أن توصلت إلى تحقيق هدفها المطلوب بالتوجيه الرئاسي رقم 68 لسنة 1950، على امتداد أربعين سنة من الحرب الباردة، ووصلت إلى تفوق اقتصادي وعسكرى غالب عليها عند هذا المفصل التاريخي أن تضع وتنفذ السياسات الكفيلة بضمان استمرار القوة الأميركية غالبة، وبحيث تظل إرادتها غير قابلة للتحدي ودورها غير قابل للمنافسة!>>. وفي ما بين نقطة البداية التي سبقت، وحتى نقطة الوصول التي لحقت، وفي التطلع إلى المستقبل وهو هذه اللحظة أُفق واسع وليس مجرد نقطة على أفق وجد المكلفون بالأمن القومي أنفسهم أمام مجموعة اعتبارات أساسية طرحت ضروراتها على المناقشة الكُبرى.

وكانت هذه الاعتبارات الأساسية قائمة طويلة: 1 منذ كان الرئيس <<كارتر>> في البيت الأبيض سعى مستشاره <<زبغنيو بريجنسكي>> إلى تشكيل هيئة من أربعمئة خبير يرأسهم <<بول نيتزي>> (ذاته)، مهمتها التحضير للسيناريوهات المحتملة لنهاية الاتحاد السوفياتي والاستعداد لعواقبها كيفما تجيء، وكان <<بريجنسكي>> يرى نهاية الاتحاد السوفياتي قادمة (في وقت ما من بداية القرن الحادي والعشرين!). وكانت معظم السيناريوهات المحتملة للنهاية تتحسب لمغامرة حرب مسلحة، أو مفاجأة انقلاب، أو محنة فتنة أهلية لكنه لا يبدو أن أحدا توقع أن تجيء هذه النهاية بسكتة قلبية هادئة وسلمية، مستعدة للنهاية دون محاولة إنقاذ ولو بالصدمة الكهربائية، سواء قام بها الحزب الشيوعي أو الجيش الأحمر، والمثير لدهشة الجميع في واشنطن أنه بدا في بعض اللحظات وكأن كل الأطراف في الداخل السوفياتي حريصون على <<سرعة تكفين الميت ودفنه>> أكثر من حرصهم على إنعاش قلبه واسترجاع نبضه. وهنا فإن تلك التصورات المدروسة مقدما واحتمالاتها المتوقعة سلفا لم يعد لها داع أو نفع، وكانت تلك أكبر المفاجآت في قائمة الحقائق الأساسية المطروحة على المناقشة الكُبرى.

2 ثم لاحظ الجميع في واشنطن أن مستشار ألمانيا <<هيلموت كول>> تحرك بسرعة مستغلا فرصة سقوط حائط برلين، ليطرح مطلب <<وحدة ألمانيا>>، ومع أن الولايات المتحدة الأميركية ظلت حتى اللحظة الأخيرة تأمل أن تكون مقاومة الوحدة الألمانية آخر معركة يخوضها الاتحاد السوفياتي قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فإن المستشار <<كول>> فاجأ الكل حين عرض مبلغ ثلاثين بليون دولار على الاتحاد السوفياتي المُفْلس مقابل أن لا يعترض أو يعارض وحدة ألمانيا، وقد رضي <<غورباتشوف>> بالصفقة، وأمله أن هذه الجرعة من السيولة تخفف من وجع السقوط، وبالتالي فإن القول الفصل بعد الرِضى السوفياتي عاد إلى واشنطن. وطار <<كول>> إلى العاصمة الأميركية التي لم يعد لديها عذر مقبول لرفض الوحدة الألمانية، وهي في صميم القلب لا تريدها، مخافة أن تكون مقدمة لبعث ألمانيا أو تجديد مشروع الرايخ الكبير أو ترسيخ قوة أوروبا كمنافس محتمل وقادر على عرقلة السيطرة الأميركية المطلوبة والمستهدفة. على أن البيت الأبيض اضطر للموافقة على مضض لأنه لم تكن لديه سياسيا ذريعة مقبولة للاعتراض وقد بقي رجاؤه أن الوحدة الألمانية ربما تخيف فرنسا أكثر مما تقلق أميركا، وربما تزعج بريطانيا أكثر مما تهدد أميركا، وذلك يؤدي إلى انقسام أوروبا أكثر من ترسيخ لقوتها، وإلى جانب ذلك (هكذا التقدير الأميركي) فإن ألمانيا الغربية سوف ترهق مواردها بأكثر مما تتصور في تحقيق الوحدة، حين تتكلف ما هو فوق طاقتها لرفع مستوى ألمانيا الشرقية إلى مستوى ألمانيا الغربية، وهذه عملية استنزاف اقتصادي وسياسي مهولة، وهي بالتأكيد كافية لإرباك ألمانيا الموحدة عشرين سنة على الأقل (وذلك صحيح إلى حد كبير). والخلاصة هنا أن الولايات المتحدة وافقت على مضض، عارفة أن هناك ربما مشاكل قادمة مع ألمانيا (أو مع أوروبا) لكن هذه المشاكل مؤجلة إلى مدى غير منظور.

3 أن هناك دواعي للخلل خطرة تتعلق بالأحوال الأميركية ذاتها، وكلها تقتضي علاجا يحتاج إلى جهود مركزة، فأوضاع الولايات المتحدة هذه اللحظة مضطربة في مجالات عديدة: فهي مرهقة اقتصاديا بقسوة، حتى أنها الآن أكبر مدين في العالم.

وهي مجروحة على الأقل نفسيا من تأثير هزيمة فيتنام التي لم تشف بعد جراحها.

وهي مشوهة في صورتها العالمية من كثرة الحملات التي وجهت إلى سياساتها في العالم الثالث وفي أوروبا أيضا! وأخيرا فهي مكشوفة في هيبتها، وبعضه من سوء صورة عدد من رؤسائها، خصوصا بعد فضيحة <<ووترغيت>>، وقد ترتب عليها عزل رئيس أميركي لأول مرة في القرن العشرين (ريتشارد نيكسون). والمعنى أن الولايات المتحدة هذه اللحظة كانت أشد ما تكون في حاجة إلى عملية ترميم شامل للقوة، لأن قيادة العالم نحو عصر من السلام الأميركي Paxa Americana مهمة يصعب تحقيقها بالسلاح وحده، أو بسباق فضائي أو نووي ضد طرف منافس أو بكل ما تقدر عليه فنون الإعلان مهما بلغت مهارتها أو ببرامج للمساعدة تماثل مشروع <<مارشال>> الذي اشترت به الولايات المتحدة صدارتها لحلف الأطلنطي، كما فعلت بعد الحرب العالمية الثانية والسبب حسابي بحت، ففي تجربة مشروع <<مارشال>> كانت المساعدات المقدرة لأوروبا الغربية حتى تستأنف تشغيل طاقاتها مساعدات محدودة أو محددة، وهي في مقدور أميركا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بأكبر مخزون ذهب في العالم وأما الآن فإن مجتمع الدول كله ينتظر مكافآت الحرب الباردة، وأميركا لا تستطيع الوفاء بها، وأخطر من ذلك فإن طالبي المساعدة خصوصا في العالم الثالث لم ينشئوا بعد طاقاتهم القادرة على <<تنمية ولادة للتنمية>>، ومن ثم فإن حاجتهم إلى المساعدات ضخمة وأجلها ممتد، وكل ذلك غير مطروح لأنه غير متاح في هذا الوقت! 4 أن هناك شبح خطر يلوح على الأفق وهو خطر نفاد مصادر الطاقة المتوافرة للعالم هذه اللحظة، ودواعي هذا الخطر متعددة: أبرزها أن البترول لا يزال عماد الطاقة المحركة في أميركا وفي العالم.

والبترول مورد يستنفد طبيعيا بتزايد استهلاكه سنة بعد سنة، خصوصا في الولايات المتحدة، وهو بلد وقع في <<غرام الكهرباء والسيارة والطائرة>>، وكلها <<بالوعات شرهة للنفط>>. وكانت الولايات المتحدة منذ صدمة ارتفاع أسعار البترول سنة 1973 1974 تسعى إلى بدائل أخرى (كالطاقة النووية وحرارة الشمس، وقوة الريح، وتدافع الموج)، لكن هذه البدائل لم تصنع معجزاتها المتوقعة، رغم ما تدفق عليها من استثمارات. والآن فإن الولايات المتحدة عليها واجب الاحتفاظ بما لديها من احتياطيات النفط، مقابل الاعتماد في استهلاكها على ما تستورده عبر المحيطات، ومؤدى ذلك أنها سوف تستورد كل يوم 20 مليون برميل من النفط، وذلك عبء اقتصادي وأمني وسياسي ثقيل. لكن الولايات المتحدة ليس أمامها غير أن تتحمل هذا العبء الثقيل، لأنه مسألة <<حياة أو موت>> مع مواصلة البحث عن اختراق علمي يتوصل إلى مصدر آخر للطاقة أو مصادر لا تنفد. ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة التي اعتمدت على <<سباق السلاح>> وعلى <<التقدم التكنولوجي>> في الحرب الباردة، لم يبق أمامها الآن وحتى تكسب معركة السيادة على العالم إلا أن تدخل في سباق من أجل السيطرة علي النفط مهما تكن الوسائل! ومن الواضح إلى درجة اليقين أن الشرق الأوسط بقي مصدر أكبر إمدادات النفط، وأكبر مكمن للاحتياطيات المحققة منه، فهذه المنطقة وفيها السعودية والعراق وإيران وإمارات الخليج وبالقرب منها شطآن بحر قزوين مخزن أكثر من سبعين في المئة من النفط الموجود بيقين تحت سطح الأرض.

والمشكلة العويصة أن هذه المنطقة هي في ذات اللحظة أكثر بقاع العالم تأزما وتوترا: بسبب الصراع العربي الإسرائيلي وتعقيداته وبسبب الثورة الإسلامية في إيران وسخونتها وبسبب تردي الأوضاع السياسية في شبه الجزيرة العربية وبسبب الوهن الذي لحق بالدول المؤثرة في هذه المنطقة تقليديا.

وكانت الولايات المتحدة في مرحلة السبعينيات والثمانينيات على استعداد للسكوت، لكن المسألة باتت أكثر تعقيدا، لأن استهلاك البترول يتزايد (دون بديل)، ولأن الاستمرار في اضطراب الأسعار يربك الدول الصناعية (ويستنزف الفوائض والعوائد).

وعليه فإنه لا مفر من أن تكون منطقة الشرق الأوسط وليس غيرها مجال الاختبار الأميركي الحاسم، مع ملاحظة أن أوروبا منافس على البترول باعتبارها قارة تتشكل من جديد على أساس سوق مشتركة، ثم إن آسيا مستهلك قادم يطالب بزيادة نصيبه من الطاقة، فهناك كتل بشرية هائلة تستعد لدخول سوق النفط بشهية متزايدة مثل الصين والهند.

وعلى هذا الأساس كانت الولايات المتحدة تدرك أن الشرق الأوسط يحتاج إلى عمليتين متوازيتين:

? الأولى: تسكين الأطراف المنتجة للبترول كل منها في مربع لا تتجاوزه، وذلك يتطلب:

تثبيت الأوضاع في السعودية ودول الخليج.

وترويض الجموح الإسلامي في إيران.

والتعامل مع عراق خرج من حربه مع إيران مرهقا يطلب تعويضا عن حرب استنزفته ثماني سنوات لوقف المد الإسلامي الصادر عن إيران، وحجز تأثيراته، خصوصا عن منطقة الخليج.

? والثانية: إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، وهو بؤرة التوتر في الشرق الأوسط ومحرك الغضب لدى الشعوب العربية، وهي في قلب الشرق الأوسط (والمقصود تخفيف احتقان أعصابها).

وحتى ربيع سنة 1990 (رئاسة <<بوش>> الأب) كانت <<المناقشة الكبرى>> ما زالت جارية في واشنطن تتجاذبها الاجتهادات والتقديرات، وفي ذلك الوقت ظهر في مجلس الأمن القومي رأيان:

1 رأي يمثله <<الحمائم>> من دعاة التحفظ (وزير الخارجية <<بيكر>> ومستشار الأمن القومي <<سكوكروفت>> ورئيس الأركان <<باول>>)، ومجمله <<أن السيادة الأميركية المطلقة على العالم مستحيلة، والأفضل منها قبول سيادة نسبية تسمح بوجود شركاء آخرين بأنصبة محدودة، خصوصا مع الأوروبيين وفي إطار حلف الأطلنطي بعد إعادة تنظيمه بقيادة الولايات المتحدة بطريقة تتناسب أكثر مع ضرورات ما بعد الحرب الباردة .

2 ورأي آخر يمثله <<الصقور>> دعاة الاندفاع، ومنطقهم <<أن الولايات المتحدة لم تتحمل وحدها بمسؤوليات الحرب الباردة وأعبائها، لكي تقبل الآن شراكة تزاحمها على جوائز النصر، خصوصا من أوروبا التي غازلت الاتحاد السوفياتي (كما فعلت فرنسا على عهد <<ديغول>> وخلفائه) أو حاولت استرضاءه (كما فعلت ألمانيا بسياسة التوجه شرقا كما حدث أيام المستشار <<ويلي برانت>> ومن حذوا حذوه حتى <<هيلموت كول>>)>>.

3 ثم إن الموقع الأكثر سخونة في العالم الجديد وهو الشرق الأوسط مفتوح بالكامل أمام الولايات المتحدة، <<بما في ذلك أن كافة الأطراف فيه يطلبونها بالتخصيص ولا يعبأون بغيرها (باعتبار أن العرب يأملون في ضغط أميركي علي إسرائيل في حل لقضية فلسطين، ولا يعولون كثيرا علي أوروبا، بل ويرفضون الاعتراف لها بدور مؤثر) ثم إن النفوذ الأميركي في الخليج بأسره طارد لغيره كما أن النفط وهو عماد أي مستقبل موجود فعلا في حوزة شركات أميركية عاملة في المنطقة، والشاهد أن الدول المؤثرة في الإقليم، وأهمها مصر وتركيا (وبالطبع إسرائيل) تتسابق في ما بينها على الحظوة في واشنطن ولا تطلب غير الرِضا والقبول>>. وإذاً (كذلك رأى الصقور) فإن الولايات المتحدة ليس لها الحق إذا ترددت، وليس لها العذر إذا تخلت.

وكانت المناقشات في مجلس الأمن القومي لا تزال محتدمة بينما مختلف الأجهزة الأميركية السياسية والأمنية في المنطقة بضرورات الاستمرار في الإدارة تمارس مهامها على مسؤوليتها حتى يبلغها قرار نهائي.

وطالت المناقشات بين الحمائم والصقور، وطال الجدل بين التحفظ والاندفاع، وحلت في المنطقة حالة ارتباك شديدة بين سياسات تنتظر قرارات من واشنطن وبين أجهزة سياسية وأمنية تتحرك وفق اجتهادها على الأرض في منطقة الشرق الأوسط، وسط أجواء شديدة الفوران (بعد انتهاء الحرب الباردة، واختفاء العدو السوفياتي التقليدي الذي تصدى أربعين سنة وأكثر) كل ذلك مع تصورات أطراف خطر لها أن أمامها فرصا متاحة لكسب أرض جديدة ومواقع أكثر تقدما.

وفي هذه اللحظة بالتحديد وقع خطأ الحسابات في بغداد، فجر يوم أول أغسطس سنة 1990 حين قررت القيادة العراقية ضم الكويت، لتصبح المحافظة التاسعة عشرة للعراق، ولم يكن القرار في حقيقته مجرد قيام بلد عربي باجتياح حدود بلد عربي آخر (مهما كانت الذرائع)، وإنما كان جوهر الحقيقة أن خطا أحمر وقع تجاوزه، وفي مناخ لا يسمح لطرف بالتجاوز، وفي ساعة مفتوحة لكل الاحتمالات! 4 ذلك الخط على الرمل سنة 1990

سمعت رئيسة الوزارة البريطانية <<مارغريت ثاتشر>> أكثر من مرة تحكي عن دورها الحاسم في تشجيع الرئيس الأميركي <<جورج بوش>> (الأب) على الوقوف بحزم في وجه الغزو العراقي للكويت، وكيف أن ضغطها عليه بشدة وصل إلى درجة التأنيب عندما لاحظت تردده (كذلك قالت) حتى يرسم خطه المشهور على الرمل قائلا: <<إن ذلك لا يمكن قبوله!>> (يقصد غزو الكويت).

وفي رواية <<مارغريت ثاتشر>> أنها كانت يوم 2 أغسطس 1990 على موعد للقاء <<جورج بوش>> فى إطار مؤتمر مُغلق (أميركي بريطاني) ينسق الاستراتيجيات ويرتب الخطط بين البلدين، وكان المقرر عقد هذا المؤتمر في منتجع <<آسبن>> على سفوح مرتفعات كولورادو، وعندما عَرِفَتْ <<مارغريت ثاتشر>> نبأ الغزو العراقي للكويت ساورها الظن بأن <<جورج بوش>> ربما يقرر البقاء في واشنطن لمتابعة الأزمة الطارئة، وكذلك سارعت إلى الاتصال به تقول له (وفق روايتها) ما يكاد نصه أن يكون:

<<جورج لا تؤجل مجيئك إلى هنا مهما نصحك مستشاروك، فلا يصح أن يظن الرأي العام العالمي أن <<طاغية شرقيا>> أرغم رئيس الولايات المتحدة على التزام مكتبه وتأجيل ارتباطاته، عليك أن تضع الأمور في حجمها المناسب لها، فضلا عن أن ما جرى في الشرق الأوسط موضوع لا بد لنا أن نبحثه سويا، وقد كنت على استعداد أن أطير إلى واشنطن للقائك، لكني عدلت لنفس السبب، وهو أن لا يظن أحد أنه أرغمنا جميعا على تغيير جدول أعمالنا>>.

وتستطرد <<مارغريت ثاتشر>> <<أن جورج جاء إلى آسبن، وجلسنا معا وأحسست أنه <<مخضوض>> وأن ركبه <<سائبة>> Wobbly، وبعد ساعة ونصف ساعة تمالك <<جورج>> نفسه وأكد لي <<أنه سوف يضرب بكل قوته>> وأكدت له أننا معه!>>.

وتستطرد <<مارغريت ثاتشر>> في روايتها قائلة <<إنها كانت تقدر مبكرا أن هناك فى الغرب خصوصا <<أصدقاءنا عبر المانش فى باريس>> (تقصد الرئيس الفرنسي <<فرانسوا ميتران>> أيامها) سوف يدعون الحكمة، ويطلبون الانتظار، ناسين درس <<هتلر>> و<<موسوليني>> فى أوروبا (قبل الحرب العالمية الثانية) لكي يستأنفوا إدمانهم لسياسة التهدئة، وأما هي فلم تكن ولا تزال من الرافضين لهذه السياسة إزاء العدوان، واعتقادها أن السكوت مرة معناه السكوت كل مرة وإلى آخر المشوار، لأن شهية الغزو تنفتح أكثر حين يهضم ما أكل ويعود مطالبا بالمزيد!>>?.

والواقع كما أظهرت الوثائق والشهادات الحية لاحقا أن <<مارغريت ثاتشر>> كانت مبالغة (أو على الأقل متفائلة) في حجم الدور الذي لعبته في تشجيع <<جورج بوش>> (الأب) على التصدي بالقوة لاحتلال الكويت.

والحاصل أنه بصرف النظر عن كل الخطوط الحمراء التي اجتازها العراق فجر أول أغسطس 1990، حين اقتحم الأرض المحظورة لمواقع النفط في الخليج أن <<جورج بوش>> لم يكن مُفاجأ بالدخول العراقي إلى الكويت، بل لعل العراق بذاته وصفاته لم يكن تلك اللحظة بعيدا عن أفكار مستشاري البيت الأبيض ولا عن تصوراتهم لشكل المستقبل في القرن الحادي والعشرين، الذي كان قرنا لا بد له في تقديرهم وبأي ثمن أن يظل قرنا أميركيا تنفرد فيه أميركا بالسيطرة على العالم ولأول مرة دون شريك.

? ومن ناحية أن البيت الأبيض لم يفاجأ، فمن المؤكد الآن أن الأجهزة الأميركية المعنية وضمنها وكالة المخابرات المركزية الأميركية، والمخابرات العسكرية، ومكتب استطلاع القيادة المركزية التي يقودها الجنرال <<نورمان شفارتز كوبف>> كانت تتابع تحركات القوات العراقية، وترصد تقدم فرق الحرس الجمهوري لاتخاذ أوضاع هجومية حول منطقة البصرة، وكانت تلك الصورة كافية لتظهر بجلاء أن هناك نية، وأن هذه النية على وشك أن تتحول إلى خطة لاحتلال الكويت.

واتصل رئيس الأركان <<كولين باول>> بالبيت الأبيض يوم 25 يوليو 1990 يتشاور مع مستشار الأمن القومي للرئيس <<برنت سكوكروفت>>، فيما إذا كان الأوفق تكليف السفيرة الأميركية فى بغداد <<أبريل غلاسبي>> بطلب مقابلة عاجلة مع الرئيس العراقي، حتى تلفت نظره بتحذير مبكر إلى التزام أميركي بحماية الكويت لكي يراجع حساباته، لكن <<سكوكروفت>> عاود الاتصال برئيس الأركان يبلغه بما استقر عليه الرأى بين مستشاري الرئيس وهو أن أي تحذير مبكر <<للعراقيين>> لا داعي له، وأن القرار هو الانتظار <<حتى نرى ما سوف يفعلون ثم نتصرف بما نجده مناسبا!>>.

ومن الغريب أن <<أبريل غلاسبي>> ذات اللحظة كانت تنقل إلى الرئيس <<صدام حسين>> رسالة مرتبكة لعلها (إذا جرى استبعاد نظرية المؤامرة) أن تعكس حالة اللاقرار التي كانت سائدة في الإدارة الأميركية إزاء مشهد سقوط الاتحاد السوفياتى، وبالطريقة التي جرى بها ذلك السقوط وتداعياته، وأولها كيف يمكن للإمبراطورية الأميركية أن تستغله لحسابها؟! ? ومن الناحية الثانية فإن العراق بذاته وصفاته لم يكن بعيدا تلك اللحظة عن أفكار مستشاري الرئيس <<بوش>> (الأب) وتصوراتهم لشكل المستقبل في القرن الحادي والعشرين.

والواقع أن العراق بذاته وصفاته كان متداخلا بشدة في مسار مناقشات مجلس الأمن القومي واجتماعاته الخمسة (أواخر سنة 1989 وأوائل سنة 1990) بل كان حاضرا قبل ذلك في مناقشات لجنة الأربعمئة خبير التي درست احتمالات سقوط الاتحاد السوفياتي وحاولت أن تتحسب لعواقب هذا السقوط. وبالتحديد فإن العراق كان داخلا في عديد من الاعتبارات التي طرحتها المناقشات:

كان بالطبع داخلا فى قضية النفط وضرورة السيطرة الكاملة على منابعه وإنتاجه (فالعراق وحده يملك 113 بليون برميل من البترول المؤكد، أي 11% من الاحتياطي العالمي، ولديه في ما هو مرصود 70 حقلا لم يستثمر منها غير 15 مما جعل وزارة الطاقة فى الولايات المتحدة ترفع حجم الاحتياطيات العراقية في تقديراتها السرية إلى 220 بليون برميل أي أكثر من ضعف ما هو محسوب عالميا أو مرصود.

وكان العراق طرفا نشيطا في ظاهرة الغضب الإقليمي، فقد خرج من حرب طالت ثماني سنوات مع إيران، متصورا أن الغرب الذي ناصره في التصدي للمد الثوري الإسلامي في إيران (رغم أن هذا الغرب نفسه قاوم الاتحاد السوفياتي بسلاح الجهاد الإسلامي فى أفغانستان) توقف عن مساعدته، ثم إن الدول العربية خصوصا دول الخليج وهي أول وأشد محرضيه على التصدي لإيران، تركته بعد أن أرهق طاقاته وانصرفت تركز على مصالحها.

وكان العراق داخلا في قضية أمن إسرائيل، لأنه بسبب عدم وجود حدود بينه وبين إسرائيل لم يلزم نفسه باتفاقية هدنة، ولم يدخل في مفاوضات سلام، بل على العكس فإنه اتخذ أكثر المواقف تشددا إزاء أي محاولة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وفوق ذلك فإن ضغط العراق كان محسوسا على سوريا، لمنعها من اللحاق بمصر إلى عقد اتفاقية صلح مع الدولة اليهودية.

وكان العراق أولا وأخيرا طرفا رئيسيا في قضية تكدس السلاح فى منطقة الشرق الأوسط، لأن الولايات المتحدة اعتبرت أن الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بنظام الشاه وهو أقرب الأصدقاء إلى أميركا وإسرائيل ضربة قاسية لها، ومن ثم فإنها لم تدخر جهدا فى تسهيل تسليح العراق حتى يستطيع صد المد الإسلامي الإيراني، ومعاقبة ثورة <<الخُميني>> وجموحها الجارف.

? والحاصل أن الاستراتيجية الأميركية سعت إلى ضرب إيران بالعراق، والعراق بإيران، وقصدها استهلاك قوة بلدين لا يمكن الاطمئنان إليهما معا على المدى الطويل، وكانت تلك السياسة هي التي سميت في ما بعد بسياسة <<الاحتواء المزدوج>>، وقد عبر عنها <<هنري كيسنجر>> بقوله: <<هذه أول حرب في التاريخ أتمنى أن لا يخرج بعدها منتصر، وإنما يخرج طرفاها وكلاهما مهزوم!>>.

أي أن سياسة الولايات المتحدة فى تلك الحرب كانت زيادة تأجيج النار وتزويدها بوقود جديد كلما هدأ الحريق?.

? والغريب أن كثيرين لم يلتفتوا بالقدر الكافي إلى الداعي الذي دفع الإدارة الأميركية في عهد <<بوش>> (الابن) (8 نوفمبر 2002) إلى خطف تقرير العراق المقدم لمفتشي الأمم المتحدة عما بقي لديه من أسلحة الدمار الشامل، وكان السبب هو أن الإدارة الأميركية أرادت أن تحذف من التقرير كل إشارة إلى أن أكثر من 25 شركة أميركية عملاقة تولت توريد معظم هذه الأنواع من أسلحة الدمار الشامل إلى العراق أثناء حربه ضد إيران!?.

وكان العراق بعد ذلك داخلا فى قضية القلق الإسرائيلي من درجة <<المعرفة العربية>> بأسرار صنع وإنتاج أسلحة الدمار الشامل (أكثر من الاهتمام بما هو موجود فعلا من هذه الأسلحة) لأن هاجس إسرائيل الدائم كان إقصاء كل طرف عربي عن <<علوم وتكنولوجيا>> إنتاج الأسلحة المتطورة.

وأمام اجتماعات مجلس الأمن القومي برئاسة <<جورج بوش>> (الأب) كان هناك سيل من تحذيرات إسرائيلية تبدي القلق مما يجرى في مصانع العراق ومعامله، وتلح على ضرورة اتخاذ إجراء حياله، باعتباره <<خطرا محتملا فى المستقبل، حتى وإن لم يكن هذه اللحظة الدقيقة <<خطرا متيقنا>>!>>.

وطوال الفترة ما بين دخول العراق إلى الكويت أول أغسطس 1990، وحتى خروجه منها فى فبراير سنة 1991، كان <<جورج بوش>> وأركان إدارته يشعرون أنهم على أول الطريق المؤدي بهم إلى تأكيد أن القرن الحادي والعشرين سوف يكون قرنا أميركيا! وكانت التجربة الإمبراطورية الجديدة استعدادا للقرن الأميركي الجديد (الحادي والعشرين) فريدة من نوعها، فقد قابلت فرصتها، وساعدها أن الفرصة واتتها ومع الفرصة قضية.

فهي أولا قضية البترول مباشرة.

وهي ثانيا قضية خلل في الحسابات وقع فى المكان الخطأ والمناخ الخطأ والزمان الخطأ.

بمعنى أن الولايات المتحدة كانت تفكر في أمر العراق بالتحديد، ثم إنها حامت حوله وقابلت فرصتها عندما ظهر العراق أمامها على الناحية الأخرى من خط الرمل وليس معه غير كتل من الجماهير المحبطة باحثة في التيه عن علم، ناظرة إلى النجوم على أمل وكانت إدارة <<جورج بوش>> (الأب) مصممة أن لا يفلت منها طرف الخيط الذى أمسكت به، وهنا فإن جهدها تحرك على عدة محاور: ? المحور الأول الاستفادة من صدمة غالبية العرب على المستوى الرسمي والشعبي بمفاجأة غزو الكويت، وهنا فإنها بادرت إلى استغلال هذا الشعور لتثبت أرضية عربية تؤسس لمشروعية ضرب العراق. وكان المطلوب هو الإسراع بتجهيز هذه الأرضية قبل أن يتبدد أثر الصدمة، أو يراجع العراق تصرفه عندما يرى النذر، أو يتمكن من تحويل الأغلبية التى تعارض تصرفه إلى أغلبية تسكت عليه بأمل أن تتمكن القدرة العراقية المتضخمة من دور فاعل في الصراع مع إسرائيل.

وكان المحور الثاني التأكد وقد دخل العراق إلى الصندوق أنه لن يخرج منه، وهنا فإن الضغط الأميركي كان صارما للحيلولة دون حل عربي لأزمة غزو الكويت. وهنا جاءت للإنصاف محاولة ملك الأردن <<حسين>> (مع التسليم بأنه في ما سعى به كان يحاول الحفاظ على وحدة الأردن وعلى عرشه، وعلى مستقبل أسرته وربما فرصها في عرش هاشمي في العراق ذات يوم) وكان أن الملك <<حسين>> (كذلك قال لي وأكد وساندته في ما قال وأكد وقائع ووثائق صحيحة)، توضح أنه توصل إلى إقناع القيادة العراقية يوم 5 أغسطس بعد أن لمعت البوادر والنُذر بأنها إذا لم تنسحب من الكويت فسوف تواجه ما لا طاقة لها به، وكان شرط العراق في طلب الأمان صدور تعهد أميركي بأن الولايات المتحدة لن تطارد الجيش العراقي في وطنه إذا عاد وراء حدوده وترك الكويت.

لكن البيت الأبيض مارس كل نفوذه لقطع الطرق ومنع أي مخرج عليها، وكان مؤتمر القمة العربي في القاهرة يوم 10 أغسطس، وأجواؤه وملابساته بمثابة عملية إغلاق للصندوق حول العراق بالمفتاح وبالترباس!

? وكان المحور الثالث تكثيف الحشود حول العراق، وكذلك راحت الفرق المدرعة وحاملات الطائرات وقواعد الصواريخ الأميركية تتسابق إلى اتخاذ مواقعها فى القواعد والتسهيلات العربية ابتداءً من يوم 6 أغسطس، أي من قبل انعقاد القمة العربية، وكان شكل الحشود قاطعا أنها الحرب ليس فقط لتحرير الكويت، ولكن بالدرجة الأولى لتدمير القوة العراقية والسيطرة على مقدرات ذلك البلد، وفي أواخر سنة 1990 كانت الحشود العسكرية الأميركية البريطانية (ومعها تشكيلات متحالفة من كل مكان) تحكم حصارها حول العراق بطوق حديدي.

وكان الملك <<حسين>> لا يزال يبذل مساعي يعرف أكثر من غيره أنها يائسة، وجرى بينه وبين السيدة <<مارغريت ثاتشر>> رئيسة الوزارة البريطانية لقاء عاصف في مقر رئاسة الوزارة في لندن، فقد جلس الملك أمام المرأة الحديدية، يقول لها بعد المقدمات <<إنه يريد أن يشرح لها النتائج التي يمكن أن تترتب على غزو العراق وتدميره>> وإذا <<مارغريت ثاتشر>> تهب فى وجهه صارخة:

<<اسمع.. أريدك أن توفر على نفسك حججك السياسية والقانونية، وتعرف أنك تضع رهانك على الطرف الخاسر، ثم صاحت فيه <<أنت تراهن على الخاسر>> <> وكانت عيناها تبرقان بالغضب، وأحس ملك الأردن أنه أُهين، وقال بأدب محاولا ضبط غضبه <<سيدتي.. لا يحق لك أن تتحدثي إلي بهذه اللهجة>>.

وقصد الملك بعد لندن إلى الولايات المتحدة يلتقي الرئيس <<جورج بوش>> (الأب) فى ضيعته <<كينيبنكبورت>> بولاية <<ماين>>، وقال له وهما يمشيان قرب شاطئ البحر <<إنه يخشى من اندلاع نار مدمرة فى المنطقة>>، ورد عليه <<بوش>> (الأب) بقوله <<إنه يعرف أن النار سوف تندلع، لكنه حريص على الملك لا يريد له أن يحرق أصابعه بلهبها>>.

? وكان المحور الرابع هو تشكيل تحالف عالمي واسع لشن الحرب على العراق، وهنا أصدر مجلس الأمن مجموعة قرارات لَفَّت الصندوق العراقي بسلاسل من الفولاذ حتى لا يدخل إليه ولا يخرج منه شيء، وكان الطوق اقتصاديا وسياسيا ودعائيا بحبكة لم يسبق لها مثيل، وعندما توقفت كل أنابيب ضخ البترول العراقي عبر تركيا وسوريا والسعودية، فقد بدا أن العراق داخل الصندوق الفولاذي يتعرض لعملية خنق تمهد للضربة القاضية عندما يجيء دور السلاح.

وكانت الولايات المتحدة قاسية مع الجميع، خصوصا هؤلاء الذين بان ترددهم من الأطراف الدوليين، وأولهم فرنسا (واضطر الرئيس <<ميتران>> إلى تغيير موقفه الذي مال إلى الاعتدال ولو قليلا، لأن ممثلي الشركات الفرنسية الكُبرى ذهبوا إليه شاكين أن سياسة فرنسا سوف تحرم شركاتها من أكبر العقود في التاريخ، وهي عقود الامتيازات في بترول العراق وعقود المقاولات لإعادة تعميره) وكذلك شاركت القوات الفرنسية فى الحشد العسكري الكبير المحيط بالعراق.

? وكان المحور الخامس هو شن الحرب فعلا ابتداءً بتمهيد جوي تواصل أكثر من أربعين يوما، ولم تكن القيادة العراقية تتصور إمكانيات الحرب الإلكترونية عندما يطلق لها العنان، وكان ظنها أنها سوف تستطيع ممارسة مقاومة مؤثرة اعتمادا على ما لديها من إمكانيات.

وحدث في <<فترة الريبة>> قبل أن تفتح المدافع فوهاتها أن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق <<إدوارد هيث>> قصد إلى بغداد وقابل الرئيس <<صدام حسين>> وقال له ضمن ما قال <<إنكم لا تعرفون حجم الأسلحة الأميركية التي تستطيع الولايات المتحدة أن تستعملها ضدكم>>، وكان الرد الذي سمعه <<أن الولايات المتحدة تعرف حجم الأسلحة التي يستطيع العراق أن يقاوم بها>>.

لكن الحرب عندما جاءت أظهرت أنه مهما كان ما تملكه دولة في العالم الثالث (حتى وإن حصلت على معظمه من شركات أميركية أو أوروبية) محسوب كله في إطار لا يتجاوزه، وأن ترسانات القوة العظمى (بالتحديد الولايات المتحدة) تحتوي على ما هو قادر عليه!

? وكان المحور السادس أنه عندما انكسرت مقاومة العراق، وبان أن الحرب البرية بعد الضربة الجوية مجزرة شنيعة راح بعض ملوك ورؤساء الدول العربية (وهم أطراف تحالف فيها) يظهرون قلقهم من الاستمرار أكثر من ذلك في مواصلة المذبحة.

وتشاور الرئيس <<جورج بوش>> (الأب) مع كبار مستشاريه وبينهم هيئة الأركان المشتركة، وكان رأيهم وفيهم <<كولين باول>> أن الحرب حققت أهدافها، لأن الضربة الجوية دمرت فعلا معظم السلاح العراقي، وأما بالنسبة للنظام فى بغداد، فإن ثورة محققة (شيعية فى الجنوب كردية فى الشمال) سوف تتكفل ببقية المطلوب، وفي أرجح الاحتمالات فإن الجيش العراقي سوف يقوم بانقلاب على قيادة ورّطته في حرب غير متكافئة، وحينئذ تقوم في بغداد حكومة جديدة ترضى بالشروط السياسية للمنتصر (بعد قبول النظام الحالى بالشروط العسكرية اللازمة لوقف إطلاق النار) ثم إنه لن يكون في وسع هذه الحكومة العراقية الجديدة أن تفعل شيئا، سوى أن تفتح الأبواب لعهد جديد مع الولايات المتحدة، وحينئذ يتحقق تغيير النظام، وبعده استدعاء أميركي إلى قلب بغداد.

? والمحور السابع أن آلة الإعلام الأميركية الضخمة وكذلك أجهزة العمل السري راحت تحرض الجنوب الشيعي والشمال الكردي على الثورة، وبدا لعدة أسابيع أن النظام فى بغداد معزول، لكنه في نفس تلك اللحظة وقعت معجزة لم تكن في حساب أحد، ذلك أن الجيش العراقي الذي رأى وحدة الوطن العراقي توشك على الانفراط قبل أن يتحقق سقوط النظام بذل جهدا خارقا للعادة فى مقاومة الثورة جنوبا وشمالا، وتمكن من السيطرة على الوضع.

وفي ظرف شهور قليلة، بان أن الحرب لم تحقق كامل أهدافها، فقد وقع تدمير الاقتصاد العراقي، واستهلاك قوة الجيش العراقي وسلاحه، لكن النظام تمكن من البقاء، كما أنه على وجه القطع ظل يسيطر على قوة عسكرية لها شأن، مع التسليم بأنها توازي نصف حجمها السابق وربع سلاحها!

ولم تكن هذه النتائج مرضية من وجهة النظر الأميركية، لكن معظم العالم أصبح يعتقد أن العراق دفع ما فيه الكفاية كفارة عن خطأ الحسابات، ومع ذلك فإن الرئيس الأميركي <<جورج بوش>> (الأب) كان له اعتقاد مختلف اعتمدته إدارته، باعتبار أن الأسباب التي استهدفت العراق أكبر من الكويت وأولى من المنطقة العربية، وأهم من بقية العالم.

وعندما سقط <<جورج بوش>> (الأب) فى محاولته للحصول على مدة رئاسة ثانية، وأفسح مكانه فى البيت الأبيض لرجل غيره هو <<بيل كلينتون>>، فإن هذا الرئيس الجديد لم يكن فى فكره تغيير السياسات الأميركية، وإنما كان في مزاجه تغيير الأسلوب، وقد اختار أسلوبا آخر لتحقيقه.

وكذلك ظلت إدارة <<كلينتون>> على طول ثماني سنوات تضع العراق تحت نظرها، وتضيق عليه خطوة بعد خطوة معتمدة على سياسة الصندوق المغلق، أي استمرار حصاره اقتصاديا وسياسيا ودعائيا، تظن بذلك أن الخنق حتى وإن كان بطيئا، أشد قسوة من القتل الذي يجيء سريعا وزيادة عليه فإنها كانت بين الحين والحين توجه إليه ضربة صاروخية تذكره <<بالمصير المحتوم>>.

وفي أيام رئاسته الأولى وجه <<بيل كلينتون>> إلى العراق ضربة صواريخ، بحجة أن عملاء عراقيين حاولوا اغتيال الرئيس السابق <<جورج بوش>> (الأب) أثناء زيارة قام بها إلى الكويت، (وتلقى في آخرها هدية توازي وزنه ذهبا).

ثم تكررت ضربات الصواريخ، وآخرها ضربة <<ثعلب الصحراء>>، التى استمرت عدة أسابيع، وهدفها إعادة تحطيم ما أصلحه الشعب العراقي من مرافقه التي دمرتها عاصفة الصحراء، حتى يدرك أنه غير قادر على ترميم حياته فى ظل النظام الذي يحكمه (وكان ضمن ما استهدفه القصف الكبير من مرافق الحياة: محطات المياه والمجاري، ومحطات الكهرباء، والمصانع، ومولدات الطاقة وغيرها وغيرها).

وبالتوازي مع ذلك جرى الضغط على مفتشي الأمم المتحدة، (ورئيسهم في ذلك الوقت <<ريتشارد بتلر>>) يعاونه مساعده الأول <<سكوت ريتر>> (الذي اعترف في ما بعد أنه كان ينسق كل تصرفاته مع إسرائيل، وأنه في فترة عمله زارها سرا اثنتين وعشرين مرة) لكي يحولوا دورهم من مهمة تفتيش إلى محكمة تفتيش. وبالتوازي مع ذلك أيضا جرى تشجيع المعارضة السياسية للنظام العراقي، وكان معظم التشجيع في المنافي البعيدة، لكنه بعد الأخذ بسياسة مناطق الحظر الجوي فى جنوب العراق وشماله (وقد فرضته واشنطن خارج إطار الأمم المتحدة) جرى إنشاء مناطق آمنة بالذات في الشمال الكردي، وعليه فإن المجال أصبح مفتوحا لجماعات مقاومة متعددة الهويات والأعلام والوسائل.

وفوق ذلك كله راح الإعلام الأميركي يشدد كل يوم ضغطه على الجهاز العصبي للنظام فى بغداد!

كان الصندوق المغلق الذى وُضع فيه العراق يزداد إحكاما كل يوم دون السماح بثغرة تتسرب منها أنفاس هواء تسمح بحياة صحية أو نصف صحية. ومع ذلك فإن تلك المجموعة التى توافرت على دراسة الضرورات المُلِحة للإمبراطورية الأميركية في القرن الحادى والعشرين، والتي نشطت تحت لافتة <<ضرورات قرن أميركي جديد>> لم تكن عاطلة عن العمل، رغم أنها لم تعد مؤثرة على القرار السياسي من البيت الأبيض، فهذه المجموعة كانت جمهورية فى غالبية أعضائها بينما الإدارة والبيت الأبيض فى حوزة الديموقراطيين الآن.

وفي الواقع العملي فإن تلك المجموعة أصبحت بالفعل وبالقول أداة ضغط (لوبي) تفرض على الإدارة القائمة (الديموقراطية) إيقاعا أسرع مما ترغب فيه هذه الإدارة (فالاستراتيجيات فى العادة متفق عليها والأساليب وحدها تقبل الاختلاف) لكن مجموعة الضغط الجمهورية لا تتوانى في تشديد ضغطها لأنها تخشى من مستجدات تطرأ على الساحة الدولية تشوش أو تعطل.

وبشكل محدد فإن القوى المؤثرة فى الولايات المتحدة فى البيت الأبيض أو خارجه ديموقراطيين وجمهوريين على السواء ظلت متفقة على مشروع جدول أعمال.

إمبراطورية أميركية واتتها الظروف <<وواجبها المقدس>> والحال كذلك أن ترث ما سبقها من إمبراطوريات، وأن تحتفظ بما ورثت، وتضيف إليه، ثم تضمن إحكام قبضتها على السابق واللاحق. وعالم لا بد من إعادة ترتيب أحواله وإقامة موازينه من جديد على أساس مختلف، يحتفظ للإمبراطورية الأميركية بالكلمة العُليا فى كل شأن.

وبين أهم اللوازم سيطرة كاملة على موارد الطاقة لأنها محرك القوة والتقدم، حتى إشعار آخر.

وفي إطار ما هو ضروري ولازم فإن الولايات المتحدة مستعدة بشروط أن تقبل بحق كبرى الدول الصناعية الغربية في شراكة تكون لها نسبة مقررة في القرار العالمى، ونصيب مقنن في موارد النفط، على أن تظل الكلمة الأخيرة فى الموضوعين لواشنطن.

يساعد على ذلك أن الضرورات واللوازم التي اقتضت أن يكون مجال الحركة الرئيسية مع مفتتح القرن الحادي والعشرين هو الشرق الأوسط توافقت مع كون الولايات المتحدة حاضرة ومتمكنة منه فعلا، ثم إن النظم الحاكمة فى بلدان هذه المنطقة صديقة وموالية.

وفي التقدير الأميركي أن الشريك الرئيسي المعتمد فى هذه المرحلة بالذات، ليس هؤلاء الأصدقاء الموالين من العرب، وليس بريطانيا كما يبدو على السطح وإنما هو إسرائيل، فهي وليس غيرها بالواقع العملي موجودة على الأرض، وهى بحقائق القوة مؤثرة في الساحة، وبالإضافة إلى ذلك فإن إسرائيل لظروف علاقتها مع الولايات المتحدة لا تتردد من وازع قانوني أو أخلاقي، وإنما هي بيقين داخلي عميق تدرك أن حياتها وبقاءها بعيدا عن الولايات المتحدة الأميركية مشروع غير قابل للبقاء ومحكوم عليه تاريخيا!

والشعوب العربية المعادية لإسرائيل وأولها الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ووجوده لا بد لهم أن يتعلموا درس الواقعية السياسية ويقبلوا به (حتى لو أدى إلى خروجهم من المستقبل).

ومع أنه من وقتها سنة 1991 وحتى الآن (أكثر من عشر سنوات) تغيرت الظروف، ودفع العراق كفارة الخطأ عدة مرات، وتحمل شعبه بأكثر مما تحمل أي شعب غيره فإن العراق حتى وإن لم يعد خطرا داهما ما زال من الممكن استعماله شبحا تحوطه الأوهام!

وكان مما يزكي العراق لسياسة مطاردة الشبح وحرب الوهم، عنصران:

أولهما: أن العراق مستنزف بالحرب والحصار، وبالتالي فهو هدف مكشوف ومعرض!

والثاني: أن العراق بلد موفور الغِنى بالثروات الكامنة فيه، وبالتالي فهو قادر على دفع <<تكاليف عملية تدميره>>، وقادر على دفع <<فاتورة إعادة تعميره>>، (دون أن يحتاج مثل غيره إلى معونات أو مساعدات!).

وطوال رئاسة <<بيل كلينتون>> للولايات المتحدة الأميركية كانت جماعة الضغط الجمهوري (اللوبي) المطالبة بالإمبراطورية، والسيطرة على البترول، والتحالف مع إسرائيل، وتطويع الشعوب العربية، والتلويح بشبح <<الخطر>> من العراق تزداد نشاطا، وتضم إليها مناصرين جُددا، يساعدون على توسيع دائرة نفوذها باستمرار (تحت نفس شعار: <<ضرورات قرن أميركي جديد>>!). والشاهد أنه يمكن متابعة ورصد عدد من قادة هذه الجماعة وتتبع حركتهم عبر دوائر متشابكة فهُم دائما نفس الوجوه ودائما نفس الأصوات. وكانت البداية من عضوية لجنة الأربعمئة الأصلية التي كلفت ببحث احتمالات سقوط الاتحاد السوفياتى تحت رئاسة <<بول نيتزي>>. ومنها إلى دائرة الانتشار والظهور فى مناصب كبيرة في وزارات الدفاع والخارجية والطاقة ومراكز المخابرات المركزية الأميركية (وعضوية مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وغيره من المراكز السياسية والاستراتيجية). ومنها إلى دائرة الجلوس حول مائدة اجتماع مجلس الأمن القومي تحت رئاسة <<جورج بوش>> (الأب) عندما طرحت الخطوط العامة الأولى للمشروع الإمبراطوري الأميركي للقرن الحادي والعشرين.

وأخيرا إلى دائرة النشاط والمتابعة في عهد الرئيس <<بيل كلينتون>> بعد أن خسر الجمهوريون انتخابات سنة 1992، (وكان ظنهم أن عاصفة الصحراء وحدها تكفل لهم أن يفوزوا فيها).

? والحاصل أنه فى كل هذه الدوائر تكررت نفس الأسماء: <<ريتشارد تشيني>> (نائب الرئيس الآن) <<دونالد رامسفيلد>> (وزير الدفاع الآن) <<ريتشارد بيرل>> (رئيس فريق التخطيط الاستراتيجي الآن) <<بول وولفويتز>> (نائب وزير الدفاع الآن) <<ريتشارد أرميتاج>> (نائب وزير الخارجية الآن) وغيرهم كثيرون، وفيهم من رأسوا وكالة المخابرات المركزية مثل (جيمس وولسي)، وفيهم من رأسوا شركات طاقة كبرى (مثل فرانك كارلوتشي)، ومع هؤلاء حشد من أعضاء بارزين في الكونغرس ديموقراطيين وجمهوريين على السواء (مثل جوزيف ليبرمان وجون ماكين).

وكان هؤلاء وزملاء لهم فى الفكر والفعل هم الذين أشرفوا على بناء تحالف حرب الخليج الثانية (سنة 1990 1991)، وهم الذين خططوا لمؤتمر مدريد لتحقيق صلح شامل بين العرب وإسرائيل (1992)، وهم الذين ساعدوا على تمهيد السبيل إلى لقاء بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (المعروف باتفاقية أوسلو 1994). وكانوا هم الذين كتبوا خطابا مباشرا إلى الرئيس <<كلينتون>> بتاريخ 26 يناير 1998، يقولون فيه بالنص:

<<السيد الرئيس <<إننا نكتب إليكم عن اقتناع بأن السياسة الأميركية الحالية تجاه العراق لم تحقق أهدافها، وإنها في الغالب سوف تواجه تهديدا في الشرق الأوسط أشد خطورة مما واجهناه وقت الحرب الباردة، ونحن نظن أن خطابكم القادم في شأن <<حالة الاتحاد>> يمكن أن يكون الفرصة الملائمة لإظهار عزم أميركا على أن يكون القرن الجديد أميركيا، ونأمل أن تنتهز هذه الفرصة لكي تعلن استراتيجياتك الكفيلة بتأمين مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها وحلفائها في العالم.

إننا نهيب بالإدارة أن تضع كل جهود <<الأمة>> الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية لتأكيد سيطرة الولايات المتحدة بخطوة أولى تضمن إزاحة <<صدام حسين>> عن حكم العراق، وأن تفعل ذلك من خلال الأمم المتحدة أو منفردة إذا اقتضى الأمر>>.

(وكان بين الموقعين على هذا الخطاب: <<ريتشارد تشيني>>، و<<دونالد رامسفيلد>>، و<<ريتشارد بيرل>>، و<<بول وولفويتز>>).

وتردد <<كلينتون>> وتصوره أن المعركة ضد الإرهاب لا بد أن تحقق انتصارها أولا، لكنه لم يلبث أن توصل مع جماعة <<قرن أميركي جديد>> إلى حل وسط، وكانوا هم وبكلماتهم من تولوا صياغة وطرح <<مشروع قانون تحرير العراق>>، الذي قبله الرئيس <<بيل كلينتون>>، وأرسله إلى الكونغرس حيث تم إقراره سنة 1998، ليصبح نافذ المفعول، ملزما للرئيس الأميركي. وفي إطار معركة انتخابات الرئاسة الأميركية سنة 2000، كان <<قانون تحرير العراق>> وضرورة تنفيذه الفوري، قضية أثيرت أكثر من مرة في المناظرات بين المرشحين: الجمهوري <<جورج بوش>>، والديموقراطى <<آل غور>> دون أن يذكر أحد أن استهداف العراق لم يكن إلهام مبدأ وإنما إلحاح مصالح، ولم يكن قضية عدالة وإنما سبق إصرار على القتل، لأن العراق خلال حقبة التسعينيات وبعد تحرير الكويت لم يخرج مرة واحدة في تصرف، ولم يعصِ أو يخالف، بل كان أمله أنه بالإذعان والامتثال يستطيع أن يخرج من خنق الحصار ويتخلص من كارثة العقوبات. والحقيقة أن القضية لم تعد قضية العراق، وإنما كان العراق بداية خيط وقع العثور عليه لإمبراطورية القرن الحادي والعشرين.

وكان <<جورج بوش>> (الابن) هو الأعلى صوتا، خلال الحملة الانتخابية إزاء <<آل غور>>، عندما يجيء ذكر موضوع العراق، ففي هذه النقطة بالذات كان ادعاء <<بوش>> أنه الأقدر على استكمال المهمة لأنه عاشها (عائليا)، قبل أن يلتزم بها (سياسيا)، وكانت الإيحاءات بعد ذلك تومئ إلى أن <<آل غور>> تعايش فى البيت الأبيض الوقت نفسه مع <<مونيكا لوينسكي>> دون أن يعرف بما يجرى فى المكتب البيضاوي، أو أنه عرف ولم يتجاسر على النظر إلى رئيسه في عينيه، وهو في الحالتين لا يصلح، فإذا لم يكن عرف فهو لا يقدر على الإمبراطورية، وإذا لم يكن تجاسر فهو لا يستطيع مواجهة العالم.

وفاز <<جورج بوش>> بالرئاسة، وإن لم يكن فوزه بمفاضلة أخلاقية أو سياسية (أو شعبية)، وإنما كان فوزه بحيل انتخابية وتلفيقات قانونية وراءها خطط إمبراطورية، وسياسات مشى في إطارها أحد عشر رئيسا للولايات المتحدة الأميركية على مدى نصف قرن من الزمن، تحرك فيها كل منهم بأسلوبه وبمزاج إدارته وفي أجواء زمنه (بصرف النظر عن مبادئ الأخلاق وضوابط القانون، لأن الإمبراطوريات لا تحتاج إلى حدودها وقيودها!). وقد مشى هؤلاء الرؤساء جميعا على نفس الطريق:

1 الرئيس <<فرانكلين روزفلت>> (في البيت الأبيض من سنة 1932 إلى سنة 1945) تولى قيادة الحرب العالمية الثانية إلى ظرف ظهرت فيه الإمبراطورية الأميركية <<وريثا شرعيا>> مطالبا بالإمبراطوريات الأوروبية التقليدية.

2 الرئيس <<هاري ترومان>> (في البيت الأبيض من سنة 1945 إلى سنة 1952) وهو الذي وضع توقيعه على التوجيه الرئاسي رقم 98 لسنة 1950) بتحديد الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية <<بتدمير الاتحاد السوفياتي، وتحقيق تفوق عسكري أميركي غير قابل للتحدي وغير قابل للمنافسة>>.

3 الرئيس <<دوايت أيزنهاور>> (في البيت الأبيض من سنة 1952 إلى سنة 1960) وهو الذي أشرف على عملية احتواء الإمبراطورية السوفياتية وحصرها (وهي الإمبراطورية الطالعة المتجددة) وراء الستار الحديدي وتطويقها بسلسلة من الأحلاف العسكرية فى أوروبا وجنوب شرق آسيا، مع محاولة أولى في الشرق الأوسط لبناء نظام عسكري غربي يكمل حلقة الحصار تحت اسم <<حلف بغداد>>، وقد تعطلت المحاولة (بسبب الحركة الفوارة للقومية العربية).

4 الرئيس <<جون كيندي>> (في البيت الأبيض من 1961 إلى سنة 1963) وهو الذي جرب أسلوبا آخر في الاحتواء يعتمد على جاذبية النموذج الأميركي تحت شعار إدارته المشهور <<الحدود الجديدة>>.

5 الرئيس <<ليندون جونسون>> (في البيت الأبيض من 1964 إلى سنة 1968) وهو الذي عاد إلى أسلوب الاحتواء العنيف مرة أخرى في الشرق الأقصى (بحرب فيتنام)، وفي الشرق الأوسط (بحرب سنة 1967)، مصمما على أن حركة التحرر الوطني مهما قالت ومهما حاولت هي عنصر مقاوم للإمبراطورية الأميركية، وبالتالي فهي صديق أو احتياطي (ولو بالمصادفة) للإمبراطورية السوفياتية.

6 الرئيس <<ريتشارد نيكسون>> (في البيت الأبيض من سنة 1968 حتى سنة 1975)، وهو الذى اعتمد بمشورة من وزير خارجيته <<هنري كيسنجر>> سياسة وفاق تقصد إلى تثبيت الإمبراطورية السوفياتية في شرق أوروبا حتى تتمكن الولايات المتحدة أن تعطي نفسها حرية عمل في الشرق الأوسط وفي أفريقيا وآسيا، مع محاولة تكريس الخلاف بين الإمبراطورية السوفياتية وبين الصين وهي القوة الصاعدة فى الشرق الأقصى.

7 الرئيس <<جيرالد فورد>> (في البيت الأبيض أكثر قليلا من سنة واحدة من 1975 إلى 1976) لم يعط الفرصة لعمل شيء يُذكر له.

8 الرئيس <<جيمى كارتر>> (في البيت الأبيض من سنة 1976 إلى سنة 1980) وهو الذي ركز جهده بتأثير مستشاره للأمن القومي <<زبغنيو بريجنسكي>> على قوس المتاعب على الحزام الشمالى للشرق الأوسط، فتصدى للثورة الإسلامية في إيران، وفتح معركة استنزاف الإمبراطورية السوفياتية في أفغانستان بسلاح الجهاد الإسلامي التي جر إليها العالم العربي كله في خدمة سياساته وتنفيذ أغراضه.

9 الرئيس <<رونالد ريغان>> (في البيت الأبيض من سنة 1981 إلى سنة 1988)، وكان هو الذي خطا بسباق السلاح خطوته الحاسمة نحو حرب النجوم، ثم استطاع أن يحول أفغانستان إلى مصيدة حقيقية للدب الروسي، وقاد الحرب الشهيرة ضد إمبراطورية الشر.

10 الرئيس <<جورج بوش>> (الأب) (فى البيت الأبيض من سنة 1988 إلى سنة 1992)، وهو الذي سقطت في عهده الإمبراطورية الروسية الشيوعية وفي أجوائها حقق بحرب الخليج اختراقا هائلا في الشرق الأوسط، حين تمكن من اصطياد العراق في فخ الكويت، وإذا المنطقة كلها حليف للولايات المتحدة وشريك، ثم تنازل التحالف والشراكة إلى درجة أدنى مع ارتهان العرب للسياسة الأميركية، على أمل حل للصراع العربي الإسرائيلي يكبح جماح إسرائيل ويكف أذاها!

11 وقُرب النهاية جاء الدور على <<بيل كلينتون>> (في البيت الأبيض من سنة 1992 إلى سنة 2001)، وهو الذي حاول رغم تسمية رئاسته <<فاصل جنسي>> بين رئاسة <<بوش>> (الأب) و<<بوش>> (الابن) إكمال المهمة بقانون تحرير العراق، وجرب تصفية بقايا الصراع العربي الإسرائيلي، ولم تكن قد بقيت منه إلا سلطة وطنية مُحاصرة باليأس ما بين غزة ورام الله.

12 أحد عشر رئيسا حتى جاء الدور أخيرا على الرئيس الثاني عشر <<جورج بوش>> (الابن)، وهو الآن في البيت الأبيض يزيل آثار المعركة الطويلة التي أسقطت الإمبراطورية الباقية الأخيرة إمبراطورية الشر ويجمع الشظايا المتناثرة هنا وهناك، خصوصا على أرض الشرق الأوسط حتى يرسي صرح البناء الإمبراطوري.

وبالطبع فإن <<جورج بوش>> (الابن) لم يكن وحده، وإنما اتسع المسرح من حوله لتحقيق المشروع الإمبراطوري الذي يبقى ويحكم في العالم إلى الأبد (هكذا العزم والقصد).

? كان طريق هذا الطابور من رؤساء الولايات المتحدة طويلا وكان حافلا بالإنجازات الكُبرى، وبالأخطاء الفادحة، وبالسقطات والحماقات، وحتى بالفضائح المجلجلة لكن اثني عشر رئيسا مشوا جميعا على هذا الطريق الإمبراطوري كل واحد منهم بمقدار جهده وباتساع فرصه، بعضهم سار أمتارا وبعضهم جرى أميالا، بعضهم تراجع خطوة وبعضهم تراجع شوطا لكن كلا منهم حاول، لأن المشروعات الإمبراطورية الكُبرى لا تحيد عن أهدافها مهما صادفها، ولا تطيل الوقوف أمام الصدمات بدعوى العجز عن استيعابها، ولا تمارس فعلها بالأهواء الشخصية فى غيبة استراتيجية وطنية أو قومية وذلك هو الدرس الذي لم تتعلمه ولم تحفظه السياسة العربية، حيث كل رجل في حد ذاته بداية ونهاية لأنه مستودع الحكمة الأكبر ومصدر القرار الأوحد وفى يده المصير! .

! من الحظيرة إلى المسيرة

ولم يكن ما يجري في الولايات المتحدة خافيا على قوى العالم الكبرى، فقد تقابلت كلها في ظروف سبقت المشروع الإمبراطوري الأميركي، ورأت مقاصده واحتكت مرات به، وكان الاحتكاك فى بعض هذه المرات حادا، يكاد أن يحدث شررا وربما يشعل نارا.

والآن سنة 2000 وبداية قرن جديد كانت القوى الكُبرى فى العالم تتابع دخول إدارة أميركية جديدة إلى السلطة، عارفة مسبقا أنها سوف تكون رئاسة خشنة:

كان أنصار المشروع الإمبراطوري الأميركي في صميم العملية الانتخابية وعلى مواقع توجيهها وقد تحقق الفوز لمرشحهم فيها بما يشبه المعجزة.

وقد دخلوا من <<الخارج>> إلى <<الداخل>> واحتلوا أهم المواقع داخل البيت الأبيض، وعلى رأس الإدارة، وحول مائدة <<القرار>> في مجلس الأمن القومي وفي أيديهم أهم مفاتيح القوة الأميركية، وبالتالي فإن الفرصة <<الآن>> و<<هنا>>.

ومما يسهل المهمة عليهم أنهم مع <<رئيس>> مستعد بما لديه لأن يتأثر ويسمع ويندفع، وقد أقنعوه (وهو صحيح) أن استكمال مشروعهم ضمانه لمدة ثانية في رئاسته، بحيث ينجح في انتخابات سنة 2004 نجاحا ساحقا لا تشوبه الريب ولا تحوطه الشكوك.

وفوق ذلك فإن جماعة الإمبراطورية كانت تقدر أن مشروعها لفرض سلام أميركي على العالم ( Pax Americana) لن يواجه معارضة جدية حتى من تلك القوى التي ترى <<الحالة الأميركية المستجدة>> وتفهم معانيها:

القوى الأوروبية الكُبرى سوف يضايقها ما تراه وتفهم أنها الإمبراطورية وليس كما كانت هذه القوى تأمل مشروع نظام عالمي جديد، لكنه ليس في مقدور هذه أن تفعل الكثير، وإذا أخذ في الاعتبار أن بريطانيا مضمونة (بسبب شراكتها في بترول الشرق الأوسط) فإن فرنسا وألمانيا لديهما فى أوروبا ما يشغلهما، وأوله رغبة دول الشرق التي تحررت من قبضة الاتحاد السوفياتي أن تزحف إلى الغرب طالبة عضوية الأطلنطي وبعده السوق الأوروبية المشتركة

. والاتحاد الروسي الوريث للاتحاد السوفياتي لديه ما يكفيه من المشاكل، ومع أن ترسانته النووية المتهالكة ما زالت قادرة على الردع، فإن السياسة الأميركية تستطيع تركيب صمام أمان على الموقف الروسي بضبط فاعليته.

وكانت المجموعة الإمبراطورية الأميركية تعرف من تجارب سابقة أن لحظة المُنى في موسكو هي تلك اللحظة التي تبدى فيها واشنطن بادرة تدل على أنها ما زالت تعتبر الاتحاد الروسي قوة عظمى (أو قوة متساوية) وكذلك كان أول سعي الرئيس الأميركي الجديد (الثاني عشر في ترتيب الرؤساء البناءين للإمبراطورية) هو الذهاب إلى مقابلة <<فلاديمير بوتين>>، ثم خروجه بعد المقابلة يقول: <<إنه نظر في عيني <<بوتين>> وعند تلاقي نظراتهما أحس على الفور بشعاع ضوء يوحي بالثقة، وهكذا وقع بينهما الغرام من أول لحظة، واقترح عليه أن ينادي كل واحد منهما الآخر باسمه الأول <<فلاديمير وجورج>>! والدول الآسيوية الكُبرى (الصين واليابان) مشغولة بشؤونها، وهي اقتصادية بالدرجة الأولى، وهي لن تعطل نفسها باعتراض على المشروع الأميركي الإمبراطوري، حتى بمنطق فلسفة (كونفوشيوس وبوذا) يحضها دائما على نظام في الأولويات والمراتب قادر على التحمل وعلى الانتظار.

وفي هذا كله لم يكن هناك حساب يذكر (لسوء الحظ) لرد فعل من العالم العربي على مشروع إمبراطوري يرسي ويرفع أهم ركائزه على أرض عربية ومواقع عربية وموارد عربية.

وعلى نحو ما فإن الولايات المتحدة أخذت العالم العربي مسألة مفروغا منها دون كبير عناء، والسبب أن معظم الدول العربية دخلت <<حظيرة>> التحالف من وقت حرب تحرير الكويت، ثم إنها مشت من الحظيرة إلى <<المسيرة>>، وهي عملية صنع السلام مع إسرائيل التي زادت عليها الحركة من مؤتمر مدريد سنة 1991، ولا تزال مستمرة عليها، لأنها المفاوضات بلا بديل آخر، أي مفاوضات إلى الأبد والاعتماد فيها على الولايات المتحدة وليس على غيرها، وبالتالي فإنه ما بين <<الحظيرة>> و<<المسيرة>> لا خوف على العرب ولا خوف منهم! كذلك كانت حسابات جماعة المشروع الإمبراطوري الأميركي عندما دخل أقطابه إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وحين جلسوا حول مائدة مجلس الأمن القومي، وحين أمسكوا بأهم مفاتيح القوة الأميركية الهائلة، وراحوا يحركونها لحساب مشروعهم التاريخي.

كانت حساباتهم في بعض النواحي صحيحة، وكانت الحسابات فى نواح أخرى خاطئة، وكان أول دواعي الخطأ هو العجلة ونفاد الصبر، باعتقاد جماعة الإمبراطورية أنهم أمام نافذة مفتوحة على فرصة غير محدودة.

وعندها زادت احتمالات الخطأ، ومعه تزايدت أسباب الخطر.