! ساسة وجنرالات بين واشنطن وبغداد


محمد حسنين هيكل


أولاً: نظرية الاستيلاء بـ "نصف حرب" على العراق

عندما وَصَلْت إلى لندن عائداً من الولايات المتحدة أواخر شهر مايو الماضي كان أول ما سمعته في العاصمة البريطانية رواية بالتفصيل عن اتصالات جرت وتجرى وقتها بين قصر باكنجهام (مقر الملكة) وبين رقم “10 داوننج ستريت” (مقر رئيس الوزراء) وكانت النبرة في هذه الاتصالات مختلفة عن المعتاد بين المؤسستين، لأنه كان نقاشا بين طرفين، كل منهما له وجهة نظر تعبر عن ضروراته، لكن كلا منهما يعرف لنفسه حدودا لا ينبغي أو لا يصح تجاوزها.

كان موضوع الاتصالات أن رئاسة الوزارة احتفالا بنهاية الحرب على العراق تقترح إقامة عرض عسكرى يرمز إلى معنى النصر، وكان رد القصر أن الملكة لا تحبذ إجراء استعراض نصر، وإنما تفضل إقامة صلاة شكر.

كانت الملكة فيما يظهر تدرك حساسية الظروف، كما تحفظ عن ظهر قلب حجم السلطة التي تركتها لها تطورات التاريخ الدستوري البريطاني، وما استقر بعدها من أصول وتقاليد تركت للجالس على العرش حقا واحدا لا يملك غيره، وهو “حق النصيحة أو القبول” (Advice and Consent)، وقد مارست الملكة حقها وتركت الباقي للمستشارين في المؤسستين يتوافقون على قرار يقتنع به رئيس الوزراء وتقبل به الملكة وذلك ما حدث (وزيادة)، لأن رئيس الوزراء رأى في النهاية أن يؤجل الاحتفالات سواء في ذلك استعراض النصر أو صلاة الشكر.

وكذلك توقفت الاتصالات بين الوزارة والقصر في هذا الموضوع، وطويت الملفات، لكن الحجج والآراء التي طُرحت خلال تلك المناقشات تساوي أن تُستعاد لأن لها قيمة موضوعية في حد ذاتها!

وفيما سمعت فإن النقاش بين المؤسستين الكبيرتين في بريطانيا جرى داخل إطار مضبوط ومحكوم.

عرض مستشارو رئاسة الوزراء فكرة العرض العسكري احتفالا بالنصر في العراق

: ورد مستشارو القصر

إن هذه الحرب على العراق كانت حربا من “طراز معين” لأن “الأمة البريطانية” انقسمت بسببها، ففي حين كان هناك مؤيدون لها بالموافقة (كما تبدّى في حصول الوزارة على تفويض من أغلبية في مجلس العموم تخولها التصرف كما ترى مناسبا)، فإن كتلا ضخمة من الرأي العام البريطاني وقفت ضدها بالمعارضة (كما تبدّى من أصوات عالية عبرت عن نفسها في مجلس العموم وشارك فيها عدد كبير من نواب حزب العمال، إلى جانب خلافات في مجلس الوزراء ذاته خرجت علنا إلى الناس، وأدت إلى استقالات أو تهديد باستقالات من قيادة الحزب ومن أقطاب الوزارة، ووقع ذلك كله على خلفية مظاهرات كثيفة وحاشدة لم تهدأ حركتها في لندن وغيرها من المدن البريطانية).

وعرض مستشارو رئاسة الوزارة بأن هناك الآن في بعض قطاعات الصحافة وفي الأحزاب البريطانية عملية تشكيك في الذرائع الأخلاقية والقانونية التي تأسس عليها التدخل العسكري البريطاني في العراق، ومن شأن ذلك أن يؤثر في معنويات القوات التي نفذت أوامر صدرت إليها من سلطة شرعية، فإذا عادت القوات البريطانية إلى وطنها في أجواء صمت (لا يمكن إلا أن يكون ثقيلاً!) فإن ذلك قد يعطي إشارة خاطئة إلى أطراف في الداخل تتوهم أن المملكة المتحدة تستطيع حفظ مصالحها في العالم بالسلبية أو بالاعتماد والتواكل على الظروف وعلى الآخرين.

ورد مستشارو القصر:

إن الوزارة هي التي تملك السلطة اللازمة لكل قرار سياسي، لكن المشكلة أنه حين تتصل القرارات بأمور تخص القوات المسلحة فإن الملكة وهي قائدها الأعلى (ولو بالرمز)، سوف تجد نفسها في موقف صعب لأنها حينئذ مضطرة للمشاركة، ومعنى ذلك أن الاحتفال سوف يصبح مناسبة وطنية كُبرى، والخشية أن ذلك قد يثير على نحو أشد انقسامات ما قبل الحرب وذلك يضع القوات ويضع الملكة ويضع احتفال النصر ذاته وسط جدل سياسي لا داعي له.

وفكرة صلاة الشكر التي طرحها القصر (بدلا من استعراض النصر) تحتضن القوات العائدة من العراق وتكسر الصمت من دون أن تستفز الجدل!

وعرض مستشارو رئاسة الوزراء أن المسألة لها بُعْد خارجي يتصل بالرأي العام الدولي، لأن بلدانا كثيرة تهتم بما يجري وتتابعه، سوف تلتفت إلى الطريقة التي تتصرف بها بريطانيا وهل تبدو واثقة من سياساتها، أم أن الوساوس تعتريها؟ ولهذا فإن فكرة العرض العسكري بالنصر تبين للجميع أن بريطانيا كانت تعرف ما تفعل، وأنها قامت به متحملة لكامل مسؤوليته.

: ورد مستشارو القصر

إن تجنب الإلحاح على ما كان قبل الحرب مسألة تساوي إطالة التفكير، لأنه من الأفضل ترك ما جرى قبل الحرب لظروفه دون استعادة لأجواء الانقسام فيه والاستقطاب.

ومن المناسب النظر في بعض الاعتبارات:

إن الحرب على العراق جاءت وسط أجواء تضاربت فيها المواقف داخل الأمم المتحدة، فقد كانت هناك أغلبية محققة في مجلس الأمن رأت أن القرار 1441 لا يخول للولايات المتحدة والمملكة المتحدة سلطة شن الحرب على العراق دون قرار جديد من المجلس، ومع أن “الحلفاء” حاولوا الحصول على مثل هذا القرار فإنهم لم يوفقوا، وقرروا شن الحرب على مسؤوليتهم، وبعدها حاولوا سد النقص وترميم صورة الشرعية الدولية.

إن الانقسام الذي ظهر في “الأمة البريطانية” وفي “مجلس الأمن” بشأن هذه الحرب رافقه تردد دولي إزاء الحرب على العراق بصرف النظر عن النظام الحاكم في ذلك البلد، وكان هناك نوع من الإلحاح الواسع على أفضلية عودة المفتشين الدوليين برئاسة “هانز بليكس” إلى العراق، لكن قرار مجلس الأمن تعطل لأسباب مختلفة مع أن قضية الحرب والسلام تحتاج في نظر الرأي العام العالمي إلى ضمانات وقيود تفرض على السلاح أن يكون منطقيا (حتى لو لم يكن عادلاً!).

: وعرض مستشارو رئاسة الوزارة

إنه بصرف النظر عن الانقسامات التي سبقت، فإن الحرب وقعت بالفعل وسقط في معاركها جنود بريطانيون تحت العلم البريطاني، ورغم أن عدد الضحايا البريطانيين في الحرب محدود، فإن القوات قبلت مخاطرة الدم دفاعا عن المصالح البريطانية، والاحتفال بإقامة عرض عسكري للنصر  فيما إذا استقر الرأي على ذلك  موجه إلى تكريم هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم وليس موجها إلى الملابسات السياسية لقرار الحرب، فالتكريم مطلوب للتضحية حتى وإن احتدم الخلاف على الدواعي.

إن العلاقات الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي حقيقة تاريخية إلى جانب كونها ضرورة وطنية(!) تفرض على حكومة صاحبة الجلالة ألا تترك الحليف الأمريكي وحده في مواجهة قوى في مجلس الأمن تعارضه، بدافع من مصالحها الضيقة، أو من رغبة لديها في تحجيم نفوذه والتصدي له، وكلا السببين لابد أن يدفع بريطانيا أكثر إلى مساندة الولايات المتحدة الأمريكية.

إن الولايات المتحدة منفردة تملك القوة التي تمكنها من التصرف في الأزمة التي نشبت في العراق، بصرف النظر عما إذا كانت بريطانيا إلى جانبها أو بعيدة عنها، مع العلم أن التصرف الأمريكي هذه المرة يجيء في منطقة شديدة الأهمية بالنسبة لبريطانيا سواء من ناحية المصالح الاستراتيجية والاقتصادية أو من ناحية النفوذ السياسي وهي منطقة الخليج.

: ورد مستشارو القصر

إن هناك تقديرا كاملا للأسباب التي أوردها مستشارو رئاسة الوزارة، بمعنى أنه كان هناك بالفعل قرار بريطاني بالمشاركة في الحرب جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان هناك على الأرض ضحايا بريطانيون أعطوا حياتهم تحت العلم البريطاني، ولذلك فإن الاقتراح الذي قدمه القصر بإقامة صلاة شكر يمكن اعتباره احتفالاً لائقاً يغطي كافة الاعتبارات، مع أفضلية اقتصار الاستعراضات العسكرية على ما يمكن اعتباره بالإجماع قضايا كبرى وعلامات بارزة في التاريخ البريطاني!

[وفيما بعد تفجر هذا النقاش ساخنا وملتهبا في العاصمة البريطانية، وقد وصل الآن إلى حد تهديد مركز “توني بلير”، بما في ذلك دوره في التاريخ (وكان بحسب ما نقل عنه يعلق جزءا كبيرا منه على الحرب على العراق)].

وبصرف النظر عن ذلك النقاش سواء في مرحلة حصره بين القصر ورئاسة الوزراء أو في مرحلة انفلاته إلى ساحة الحياة العامة الواسعة في بريطانيا داخل البرلمان وخارجه، فإن هناك شبه اتفاق على أن ذلك الذي جرى في العراق كان عملية من “طراز معين” يصعب الاحتفال بعدها بنصر، لأنها عملية يصعب من الأصل وصفها ب: حرب.

وكان ذلك صحيحا إلى أقصى الحدود، وأول الأسباب أن ذلك الذي جرى في العراق وبرغم حركة الجيوش والأساطيل، وبرغم الرعد والبرق أثناء الضرب والقصف لم يكن “حرباً” بالمعنى المعروف والمتفق عليه، بل لعله كان أقرب إلى عملية “إغارة” قامت بها “مجموعة مصالح” سبقت القوة الإمبراطورية للولايات المتحدة وسحبتها وراءها إلى ميادين قتل بدون تهديد مُحْتَمل أو حقيقي لأمن الولايات المتحدة، ومن دون ذرائع قانونية وأخلاقية مقبولة بل وفي غيبة الضوابط والموازين المؤسسة للحرية الأمريكية.

[وهذه نقطة مبدئية بصرف النظر عن كل ما يوجه للنظام السابق في العراق، ويُعاب عليه! لأن حساب ذلك من أوله إلى آخره، لم يدخل في دواعي القوة الإمبراطورية الأمريكية عندما قررت الانقضاض على العراق، ولم يكن في حساب التقدير الأمريكي ما يساوي المخاطرة من أجله بحياة جندي واحد].

والحقيقة أن وصف “الإغارة” هو الأقرب إلى الصحة، مع العلم بأن تعبير “الإغارة” كان في يوم من الأيام فعلاً عسكرياً، لكنه الآن تعبير تعددت استخداماته خارج القاموس العسكري، ولعله شاع على نحو ملحوظ في أسلوب عمل الشركات الدولية الكُبرى العابرة للقارات والمحيطات في مواجهة عناصر المنافسة أو عناصر المضايقة التي تعترض طريقها في السوق، ومن ثم يكون عليها “ترتيب الأمور” معها بقدر ما تتمكن.

[وفي تقدير العارفين وخبرتهم أن الشركات الدولية الكبرى تقسم منافسيها إلى ثلاث درجات:

منافسين أقوياء: وهؤلاء يستحسن التوصل معهم إلى اتفاق يقسم بينهم احتكار سوق معينة (وذلك ما فعلته شركات البترول الكبرى في العالم، خصوصا تلك المجموعة التي تسمى “الأخوات السبع” The Seven Sisters  حسب عنوان الكتاب الذي وضعه الصحافي البريطاني الشهير “أنتوني سمبسون”.

ومنافسين أقل قوة: وهؤلاء يصلح معهم أسلوب “الاستيلاء الودي”، أي إغراؤهم بالبيع والاندماج وفق شروط متفق عليها تخفف أعباءهم وتساعد على زيادة أرباحهم (ونموذج ذلك ما نَجَمَ عن دمج شركة “تايم” مع شركة “سي إن إن” مع شركة “وارنر” داخل إطار مجموعة “أمريكا أون لاين”).

ومنافسين ضعفاء: يغامرون بمضاربات يأس تؤدي إلى إرباك السوق وإقلاق الوكلاء واعتراض سلاسة إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها، وهؤلاء لابد من إزاحتهم (وذلك ما فعلته مثلا شركة “آي.بي.إم” للحاسبات الإلكترونية مع منافسين دخلوا السوق بغير موارد تسندهم، معتمدين على منطق المضاربة والمغامرة)، والأسلوب الأمثل لمواجهة هذا النوع من المنافسين هو “الاستيلاء العدواني” عليهم (وليس “الاستيلاء الودي”)].

[وفي تقدير العارفين وخبرتهم أيضا أن “الاستيلاء العدائي” هو بذاته أسلوب “الإغارة” وهو في ميدان المصالح والمنافع إجراءات كيدية، برعت فيها الشركات العملاقة وأتقنت ممارستها.

وبصفة عامة فإن “الاستيلاء العدائي” على منافسين صغار أو مزعجين، ميدان مفتوح للرماية الحرة.

فهناك مثلا حصار هؤلاء المنافسين في السوق، وتضييق الخناق على المتعاملين معهم: وكلائهم أو زبائنهم.

وهناك مثلا نشر الإساءات إلى مستوى منتجاتهم من سلع أو خدمات، وإظهار قصورها إزاء السعر الذي يُدفع فيها.

وهناك مثلاً تشويه سمعتهم بنسبة الغش في المواصفات إلى ما ينتجونه من سلع وخدمات (وقد وصل الأمر أحيانا ببعض شركات المشروبات الكُبرى إلى وضع حشرات في زجاجات مشروب منافس، ثم ترتيب ضبط زجاجة منها ينكشف أمرها بوسيلة من الوسائل وتكون الفضيحة أمام جمهور المستهلكين).

وهناك مثلا الضغط على شركائهم (إن وجدوا) واستمالة محاميهم الموكَلين بالدفاع عنهم وإغراء موظفيهم بإفشاء أسرارهم وكشف أوراقهم.

وهناك مثلا الدخول معهم مباشرة أو بالوساطة في منازعات قضائية أو غير قضائية تشغلهم وتستغرق جهدهم وأعصابهم، وتستنفد صبر المحامين والقضاة والمحلفين أيضاً.

وهناك مثلا حصارهم في السوق عن طريق البنوك لتشتد الضائقة وتخنق.

وهناك في النهاية وكحل أخير استخدام أسلحة عمل مباشر فيها تدبير الإضرابات، والتحريض الخفي على تصرفات خشنة يتدخل فيها مثيرو الشغب والبوليس حتى تصبح الحياة الطبيعية من شبه المستحيلات!

والمهم في هذا كله وفي شأن الضعفاء غير المؤهلين للشراكة (أو المتوسطين غير القابلين بفكرة “الاستيلاء الودي”) هو “الإغارة” بقصد الإزاحة إلى الحافة: إما الاستسلام أو الإفلاس أو ما هو أسوأ!].

وفي السياق العام لإزاحة الضعفاء فإن أسلوب “الاستيلاء غير الودي” أو أسلوب “الإغارة” والذي بدأ عسكريا ثم شاع ماليا، ثم مورس بواسطة الشركات العملاقة وصل بعد رحلة من التجارب إلى مؤسسات التفكير السياسي والاستراتيجي التي أصبحت مقرا لصنع القرار الأمريكي، وقامت هذه المؤسسات على فلسفته وتطوير استخداماته لحساب التحالف الثلاثي المنشئ لهذه المؤسسات (المال والفكر والسلاح).

وفي هذا الإطار فإن المجموعة الإمبراطورية الجديدة التي قام عليها رجال من أمثال “ريتشارد تشيني” (نائب الرئيس الحالي)، و”دونالد رامسفيلد” (وزير الدفاع)، و”ريتشارد بيرل” (رئيس مجلس سياسات الدفاع)، و”بول وولفويتز” (مساعد وزير الدفاع)، وآخرين غيرهم أخذت هذا الأسلوب وطبقته على أوسع وأكفأ نطاق، ابتداءً من الاستيلاء على نتائج الانتخابات الرئاسية ثم الاستيلاء على الإدارة الجمهورية التي دخلت البيت الأبيض باعتبار هذه النتائج، ثم الاستيلاء على سلطة القرار في البيت الأبيض ثم محاولة الاستيلاء على القرن الحادي والعشرين كله.

ومع بداية هذا القرن الحادي والعشرين بدا ظاهرا أن المجموعة الإمبراطورية التي استولت على الرئاسة والإدارة والبيت الأبيض في عجلة من أمرها، مقتنعة بأنها إذا لم تستطع الإمساك بالفرصة السانحة بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، كي تحول هذه الفرصة إلى حقيقة حياة وبداهة أمر واقع فإن الظروف قد تتغير ويظهر منافسون جُدد للولايات المتحدة (خصوصاً في أوروبا وآسيا).

وكان إحساس هذه المجموعة الإمبراطورية الجديدة أن القوة الأمريكية الناعمة (على حد تعبير “جوزيف ناي” أستاذ جامعة هارفارد الشهير، وهو يقصد به تأثير أسلوب الحياة الأمريكية وقيم الحرية الأمريكية) لم تعد قادرة على أداء دورها في القرن الجديد (كما فعلت فترة ما بين الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين).

وكذلك فإن هذه المجموعة الإمبراطورية أصبحت مقتنعة بأن القوة الخفية للولايات المتحدة متمثلة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأخواتها لم تعد كافية الآن، للإمساك بفرصة هذه اللحظة، لأن العمل السري بطبيعته يحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى صبر، وذلك كله ليس متاحا من وجهة نظر المجموعة الإمبراطورية الجديدة.

وفي المحصلة فإن هذه المجموعة الإمبراطورية توصلت إلى أن تنفيذ مشروعها للقرن الحادي والعشرين يحتاج حتما إلى القوة الخشنة للولايات المتحدة أي سلاح العنف!

وبطبيعة التكوين والثقافة والتجربة فإن هذه المجموعة الإمبراطورية الجديدة كانت تعرف ما فيه الكفاية عن أساليب “الاستيلاء العدائي” (خلافاً للاستيلاء الودي) على المنافسين، وبثقافة التجربة والدرس فقد خطر لها أن هذا الأسلوب يمكن نقله من مجال الشركات العملاقة إلى مجال القوى العظمى.

وكذلك كان مطلب “الاستيلاء” بأسلوب “الإغارة” حلا طرح نفسه للعمل في الشرق الأوسط وهو المنطقة التي اعتبرتها المجموعة الإمبراطورية الجديدة (وربما كل مشروع إمبراطوري) سوقاً أهم وسلعة أغلى وموقعاً فاتحاً لكل الطرق، وكان الإغراء الأكبر أن العراق في وسط تلك المنطقة يلوح هدفا جاهزا مكشوفا وسهلا.

وكذلك تقرر تجربة عملية “الاستيلاء غير الودي” بأسلوب الإغارة على العراق، وكان ذلك ما جرى بالفعل:

ولم يكن أسلوب “الإغارة” حرباً مسلحة كاملة بتقاليد الحروب المسلحة المعروفة في التاريخ.

ولم يكن مؤامرة بالمعنى التقليدي للمؤامرة (كما فعل أطراف العدوان الثلاثي في السويس سنة ،1956 حين وقعوا اتفاقا مكتوبا على شكل معاهدة تواطأوا فيها سرا على تدبير هجومهم الثلاثي على مصر في أعقاب تأميم قناة السويس).

ولم يكن حملة نفسية وضغطا على الأعصاب تقنع الآخرين بأن يبتعدوا عن الطريق ويقعدوا على أرصفته.

وإنما كان حتى باستقراء النقاش الذي دار بين مستشاري قصر باكنجهام ومستشاري رئاسة الوزارة في بريطانيا عنفا من نوع معين غارة على العراق لا تتصاعد إلى مستوى الحرب الشاملة، ولا تقتصر على محاولة القتل المباشر!

كانت الولايات المتحدة الأمريكية طوال حقبة التسعينات من القرن العشرين تتصور أن النظام في العراق سوف يقع يقينا نتيجة لذلك الوهن الذي أصابه بعد حرب ثماني سنوات مع إيران، ومن ذلك الجرح الغائر الذي أصابه من ضربة تحالف دولي واسع نجحت الولايات المتحدة في حشده سنة ،1990 مستغلة خطأ فادحا وقع فيه ذلك النظام حين قرر دخول الكويت، متجاوزا خطوطا دولية حمراً غير قابلة للمساومة.

وحين لم يكف الوهن ولم يكف الجرح في إسقاط النظام، فإن السياسة الأمريكية اعتمدت سياسة الخنق البطيء عن طريق أقسى حصار اقتصادي ونفسي ومعنوي وإنساني في التاريخ، وبالتوازي مع الحصار الاقتصادي تم فرض حصار سياسي شديد الصرامة، حتى أصبح العراق في عُزْلة موحشة عن عالمه.

لكن النظام برغم ذلك ظل يقاوم (كما يفعل منافس محلي يائس أمام شركة عملاقة تطلب السيطرة على السوق)، وكان الأخطر من المقاومة السلبية أن النظام في بغداد راح يحاول التملص من الحصار الشامل، وبالفعل فإنه جازف (في السوق) بتصرفات، بدت نوعا من التحدي المباشر للشركة الأمريكية العملاقة:

1 -  راح يوظف أسطولا جرارا من الشاحنات والناقلات في تهريب كميات هائلة من النفط (قاربت 2 مليون برميل يوميا) وجدت طريقها إلى تركيا شمالا، وإلى الأردن وسوريا غربا، وإلى الخليج جنوبا أي أن ثغرة فُتحت في الحصار. (ومعنى ذلك أن النظام في العراق يستطيع أن يلتقط أنفاسه).

2 - ثم راح ذلك النظام يلفت الأنظار بكفاءة إلى المأساة المروعة التي يتعرض لها شعب العراق بسبب قسوة وصرامة الحصار المفروض عليه، واستطاعت قضية معاناة الشعب العراقي وكانت مرئية ظاهرة أمام العرب والعالم أن تخلق طاقة من التعاطف الهائل، وكان هذا التعاطف هو الذي فرض على الأمم المتحدة إيجاد وسيلة للتوفيق بين القسوة الأمريكية على العراق والتعاطف الواسع مع شعبه، وكانت النتيجة برنامج “النفط من أجل الغذاء” الذي يسمح للنظام في العراق بتصدير نصيب من نفطه تحت إشراف الأمم المتحدة، واستخدام العائد في استيراد سلع ضرورية لا يصح أن تخضع لحصار. (ومعنى ذلك أن النظام في العراق أقدر على الصبر).

3 -  ثم راح النظام في العراق يستعمل (وبذكاء) برنامج النفط من أجل الغذاء في إنشاء شبكة مصالح عربية ودولية، وحدث بالفعل أن دولا غربية وشرقية وعربية كثيرة تسابقت إلى اتفاقيات مع العراق طبقا لبرنامج النفط من أجل الغذاء (كما يحدث الآن من سباق نحو سلطة احتلال العراق في طلب نصيب من عقود إعادة إعمار العراق!!).

ونتيجة لشبكة المصالح الدولية والعربية التي قامت على استغلال برنامج النفط مقابل الغذاء، فإن النظام في العراق جعل من ذلك البرنامج أداة تأثير سياسي، يساعد التأثير العاطفي، ومن ثم يخلق مناخاً عاماً مواتياً. (ومعنى ذلك أن النظام في العراق يكسب أرضاً).

4 - ثم راح النظام يمنح عقودا مستقبلية، يوزع بها اتفاقيات إنتاج ونقل وتكرير ملايين من براميل النفط يوميا على منافسين كبار للولايات المتحدة (روسيا فرنسا ألمانيا وغيرها). (ومعنى ذلك أن النظام في العراق يهيئ لعلاقات دولية متجددة ومفيدة).

5 - ثم راح النظام أخيرا يعلن وينفذ إعلانه بأنه لن يبيع إنتاجه من النفط “بالدولار”، وإنما “باليورو”، وهو وعاء العملة الدولية الوحيدة الذي يقدر يوما (في المستقبل) على الوقوف أمام “وعاء الدولار”، الذي يجتذب الآن معظم المدخرات ومعظم الاستثمارات الدولية، ويجعلها بمجرد وجودها في وعاء الدولار قروضاً للاقتصاد الأمريكي دون فوائد. (ومعنى ذلك أن العراق ينتقل من الدفاع إلى درجة من المبادرة).

وبدت هذه التصرفات في مجملها وكأن المنافس (المحلي) وهو المطلوب إزاحته يعلن يوما بعد يوم أنه مازال يملك مجالا للمناورة يضيف إلى قدرته على الشغب السياسي (من وجهة نظر أمريكية).

وزادت على ذلك ظاهرتان:

أن النبرة الإسلامية للنظام في العراق ارتفعت وسط عالم عربي نزلت فيه الأعلام القومية وتراجعت الأفكار الوطنية، وبدت حصون الدين هي المعقل الأخير للمقاومة.

ثم إن النظام في رغبته لاستثارة المشاعر القومية والوطنية أخذ قضية الأمن العربي وراح يطلق أكثر النداءات تشددا في العداء ضد “إسرائيل” في أجواء تعثرت فيها مسيرة السلام أو ما سُمي كذلك.

ومعنى ذلك أن النظام العراقي (منافس محلي) مازال يعاند ويكابر، ومازال يجد الفرص ويفتح الثغرات ويمد الجسور (عاطفية وسياسية واقتصادية)، حتى يزيد من قدرته على البقاء (وقد بقي فعلا حتى شهد انقضاء رئاستين أمريكيتين هما رئاسة “بوش” (الأب) - ثم رئاسة “بيل كلينتون” لمدتين (من 1992 حتى 2000)، مع إحساس يلح على واشنطن بأن النظام العراقي يستطيع أن يبقى حتى يرى نهاية رئاسة “بوش” (الابن).

ولم تكن المجموعة الإمبراطورية الجديدة مستعدة للانتظار، وفي تصميمها أن الوقت قد جاء لعملية “الاستيلاء غير الودي” (العدائي) على العراق، والإغارة عليه بالقوة الخشنة وبالعنف وبالنار، حتى وإن جرى ذلك في منطقة هي بالطبيعة مخزن لهب!

كان ذلك واضحا قبل 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001.

وبعد 11 سبتمبر 2001 فإن المجموعة الإمبراطورية الجديدة فقدت شهية مواصلة حرب على الإرهاب اندفعت إليها بعد حوادث نيويورك وواشنطن، فقد اكتشفت أن العدو الذي استهدفته على عجل وهو تنظيم القاعدة موجود في بلد ليست فيه أهداف تستحق الضرب بالصواريخ (أفغانستان)، ولم يعد هناك كذلك أيضا وقت لتحالفات دولية أوسع ضد الإرهاب الدولي حيث كان. وقبل هذا وبعده فإنها لم تعد تملك الأعصاب التي تساعدها على الوقوف ساكتة في انتظار عمل ترتبه أجهزة العمل الخفي للسياسة الأمريكية (مثل وكالة المخابرات المركزية).

ومعنى ذلك أن قوة السلاح الأمريكي هنا والآن وبأسلوب “الإغارة” (وربما بزيادة محسوبة فوقه) عليها الدور الآن والمسؤولية على عاتقها، خصوصا أن مجمل الظروف الإقليمية والعالمية لا تقتضي حربا كاملة شاملة.

وفي هذه اللحظة ومع الحاجة الضرورية إلى “شيء من الحرب” (نصف حرب) ظهر عنصر جديد في التأثير على القرار في واشنطن، وهو القوات المسلحة الأمريكية، فهي المطالبة أو المكلفة باختصاص السلاح في أي مهمة، حتى لو كانت مجرد إغارة تستخدم قوة النيران أي شيء من الحرب “نصف حرب” على الأكثر! وهنا كان دخول القوات المسلحة في حد ذاته مسألة معقدة لها حسابات عويصة!

ثانيا: المؤسسة العسكرية الأمريكية

ومن المُلاحظ أن كثيرين في العالم وفي الولايات المتحدة ذاتها لا يفكرون بالقدر اللازم في الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية الأمريكية، وفي العادة فإن المراقبين في الداخل والخارج تأخذهم حيوية التفاعلات السياسية ما بين البيت الأبيض والكونجرس، وما بين الإدارة جمهورية أو ديمقراطية وبين الإعلام مكتوباً أو مسموعاً أو مرئياً لكن أحدا لا يشغل نفسه كثيرا بدور المؤسسة العسكرية في عملية صنع وصياغة القرار السياسي الأمريكي، خصوصا عندما يكون فيه للسلاح دور.

وعلى وجه اليقين فإن الولايات المتحدة ليست بلدا محكوما بالعسكريين، بل العكس فإنها البلد الأكثر تقدما نحو الحرية والديمقراطية، لكن ذلك لا يمنع بل لعله يدفع إلى دور رئيسي للمؤسسة العسكرية، ففي فلسفة الحرية أن القانون عمادها، وفي فكرة القانون أن احترامه مرهون بسلطة تفرض طاعته، وهنا يجيء دور القوة كملاذ أخير للحرية وللقانون معا (وفي الشأن الداخلي كما في الشأن الخارجي).

وبدون زيادة في التفاصيل لا يحتاج إليها الموضوع هذه اللحظة، فإن التجربة التاريخية لنشأة وقيام الدولة الأمريكية اقتضت بناء قوات مسلحة قادرة على ضبط جموح جماعات المهاجرين والمغامرين والباحثين عن الثروة بأي وسيلة، والمدججين بالسلاح في كل وقت ثم إن هذه القوات المسلحة كان لابد لها من طاقة نيران تتفوق بشدة على كل ما لدى عناصر المجتمع الأمريكي المتسابقة والمتزاحمة والمتصارعة في ظروف تأسيس الدولة. ومعنى ذلك أن الولايات الناشئة في القارة الواسعة احتاجت إلى الجيوش منذ لحظة الخلق الأولى (وليس كما حدث في مجتمعات تقليدية حيث تأخرت نشأة الجيوش النظامية لأن حفظ الأمن وكفالة الحق كان موكولا إلى رؤساء العائلات والقبائل، وإلى أمراء الإقطاع والملوك، حتى نشأت “الدولة” الحديثة وأصبح لها جيش محترف)، أي أن ما استغرق قرونا في أوروبا تحقق خلال عقود في أمريكا بحكم الظروف والضرورات.

وحين قامت حركة الاستقلال الأمريكي وتحولت إلى واحدة من أهم ثورات التحرر في العالم وأوسعها تأثيرا، فإن قيادة هذه الثورة كانت بالضرورة للجنرال “جورج واشنطن” الذي يعتبر حتى اليوم وإلى الأبد بطل الاستقلال الأمريكي، وأول رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة.

وبعد الاستقلال فإن المخاطر على الولايات المتحدة لم تتوقف، لأن القوى الأوروبية الكُبرى كانت لاتزال على أرض القارة الأمريكية تحاول استرداد نفوذها واستعادة غنائمها، وكان ذلك نذيرا يفرض على الدولة الأمريكية المستقلة حديثا أن تأخذ حذرها وراء قوات مسلحة تحمي استقلالها الوليد، (وقد وصلت التهديدات إلى حد أن الجيش البريطاني كر فجأة واحتل واشنطن سنة 1812 أي بعد الاستقلال بقرابة عشرين سنة!).

وحين بدا مع منتصف القرن التاسع عشر أن آمال المستقبل تفرض وحدة الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية ضمن إطار دولة واحدة قوية تقدر على مواجهة أزمنة وعصور متغيرة، فإن الولايات المتحدة عاشت تجربة الحرب الأهلية بكل آلامها ومراراتها وعذاباتها، وتلك تجربة أشد عمقا وأقسى في التأثير على غرائز وضمائر البشر! وكانت الحرب الأهلية الأمريكية بين جيشين: شمالي وجنوبي، وأصبح قادتها على الناحيتين أساطير في التاريخ الأمريكي (الجنرال “لي” والجنرال “جرانت” وغيرهما)، وحتى هذه اللحظة فإن تجربة الحرب الأهلية ومحنة الاقتتال الداخلي لفرض وحدة البلد مازالت ذكرى حية وقصة عظيمة (ألهمت المسرح والسينما بآلاف الأعمال والروائع).

وكان كبار العسكريين الأمريكيين (من البحرية خصوصاً) هم الذين حرضوا على استراتيجية الذهاب إلى خط الماء الآخر، أي أنه إذا كان الآباء المؤسسون للدولة قد اعتبروا أن الأمن الأمريكي هو عرض القارة من خط الماء إلى خط الماء (من شاطئ الأطلنطي إلى شاطئ الباسيفيكي) فإن الضرورات الآن أواخر القرن التاسع عشر تقتضي الخروج عبر المحيط، لأن الدفاع عن البيت عند بابه قِصَر نظر، فالقوى تدافع عن نفسها هناك عند شواطئ الآخرين قبل أن يعبروا البحر وليس عند شواطئها، وهكذا جرى خروج الأسطول الأمريكي (جنود البحرية) إلى جزر “هاواي”، ثم إلى “الفلبين” (والالتفاف حول اليابان للحصول على مستعمرة تثبت وجودا أمريكيا على شاطئ بحر الصين قرب “شانجهاي” مثلها مثل القوى الأوروبية الكُبرى في ذلك الوقت) وجرى نفس الشيء في المحيط الأطلسي فقد وصل الأسطول الأمريكي مبكرا واحتل جزر وسط المحيط ووصل إلى شواطئ المغرب مطلا على البحر الأبيض (حتى مر على شواطئ ليبيا وأطل على شواطئ مصر).

ثم أعقب ذلك أن الجيوش الأمريكية شاركت على نحو كثيف في حربين عالميتين (وقعتا في النصف الأول من القرن العشرين)، وكانت تلك صراعات حياة أو موت بين الإمبراطوريات الأوروبية القديمة والمستجدة وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في النهاية وارثاً وحيداً لأملاك وأحلام الجميع.

ولما كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بالسلاح النووي الذي سبقت إليه واستعملته الولايات المتحدة فإن هذه القوة الجديدة أخذت أمر العالم ومستقبله في يدها، وجعلت مصائره مرهونة بسياساتها، ولم يكن باقياً لها في تلك الظروف غير التخلص من قوتين خرجتا بعد الحرب العالمية الثانية، تحاول كل منهما أن تعطي نفسها أقصى درجة من استقلالية القرار:

الاتحاد السوفييتي: بقوة رادع نووي يملك أن يرد حتى وهو يلتقط نفسه الأخير.

ثم حركة التحرر الوطنى في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية: بقوة حلم يطلب الاستقلال والتنمية والتقدم ويستطيع أن يشعل الأرض ناراً من “جاكارتا” إلى “كازابلانكا”.

وكان هؤلاء أطراف ما سُمي بالحرب الباردة، التي أعقبت أكثر الحروب سخونة في التاريخ (الحرب العالمية الثانية التي انتهت باستعمال السلاح النووي).

وطوال تلك المرحلة كان العسكريون الأمريكيون على القمة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهم أولا قواد النصر الكبير ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والألمانية. ثم إنهم ثانيا حُراس القوة النووية التي تم التوصل إليها تحت إشراف الجيش الأمريكي وإدارته. وفضلا عن ذلك ثالثاً فإن هؤلاء القادة موجودون فعلا بجيوشهم في أهم مواقع أوروبا وآسيا والبحر الأبيض شمالا وجنوبا، فهناك على هذه المواقع خاضوا الحرب وصنعوا النصر ولم يتجاسر أحد بعدها أن يطالبهم بانسحاب، بل إن بعض الأقاليم في أوروبا وآسيا بدت شديدة التمسك ببقاء القوات الأمريكية (إحساسا بالضعف وخشية من الاختراق بجاذبية العقائد أو وهج الأحلام).

وفي لحظة من اللحظات كان ثلاثة من كبار قواد الحرب الأمريكية يحكمون العالم تقريبا:

في “واشنطن” كان الجنرال “جورج مارشال” (وزير دفاع “روزفلت”) قد انتقل إلى وزارة الخارجية (في عهد خلفه “ترومان”) طارحا المشروع الذي سُمى باسمه (مشروع مارشال) لإعادة تعمير وبناء أوروبا الغربية.

وفي باريس كان الجنرال “دوايت أيزنهاور” قائدا عاما للجيوش المتحالفة التي واجهت الاتحاد السوفييتي عبر الستار الحديدي (على حد وصف رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل”).

وفي طوكيو كان الجنرال “دوجلاس ماك آرثر” وصيا على إعادة تأهيل اليابان، وقيما على ترتيب أوضاع آسيا بما يناسب الولايات المتحدة الأمريكية في زمن جديد، وكان إمبراطور اليابان يتلقى تعليماته من ذلك العسكري الأمريكي المستعلي دون اعتراض لأن إشعاعات القنابل النووية التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي كانت لا تزال تقتل الآلاف من رعايا الإمبراطور مع كل طلعة شمس وهبة ريح!

والمعنى أن العسكريين الأمريكيين الكبار كانوا هم الذين أشرفوا على وضع خطوط السيادة الأمريكية الزاحفة:

وحين اصطدمت خطط “أيزنهاور” في أوروبا بالستار الحديدي، فإن الرجل بمرونة شديدة أدرك أن عليه حجز الأحزاب الشيوعية عن الوصول إلى مواقع الحكم في أوروبا الغربية، وكذلك فإنه منع بالقوة المباشرة أي احتمال لقيام الحزب الشيوعي الإيطالي بالاستيلاء على السلطة في روما رغم أنه كان أقوى الأحزاب، وكرر نفس الشيء في فرنسا مستعيناً بوكالة المخابرات المركزية الناشئة في ذلك الوقت، وكان مديرها العام في ذلك الوقت هو نفسه رئيس أركان حرب “أيزنهاور” السابق الجنرال “بيدل سميث”.

(ووصل “أيزنهاور” و”بيدل سميث” إلى حد تعريض أوروبا للحرب الأهلية حتى تيأس الأحزاب الشيوعية، وبالفعل وصلت اليونان وبعدها المجر وألمانيا الشرقية وبولندا إلى حافة الحرب الأهلية).

وأما “ماك آرثر” فإنه تعثر في الطريق، ربما لأنه أساء تقدير قوة الصين (ونوعية علاقتها مع الاتحاد السوفييتي)، وتورط في حرب إقليمية وسط شبه الجزيرة الكورية، ووجد نفسه أسير مأزق مخضب بالدم دعاه إلى التفكير في استعمال السلاح النووي ضد الصين، لولا أن الرئيس “هاري ترومان” سارع إلى عزله مؤيدا في قراره برئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة.

وعندما أخذ المشروع الإمبراطورى الأمريكي يتحرك بجد إلى مقاصده في ظروف دولية مناسبة فإن أنصاره ومعظمهم في الحزب الجمهوري قرروا أن الجنرال “دوايت أيزنهاور” هو رجل الساعة الذي ينبغي أن يرأس الولايات المتحدة في هذه الفرصة.

وفي ظرف سنتين اثنتين كان “أيزنهاور” قد ترك قيادته في باريس (لنائبه الجنرال “عمر برادلي”)، وأصبح رئيساً لجامعة كولومبيا في نيويورك كمرحلة انتقالية تؤهله للحياة المدنية، فلا يدخل فجأة إلى المكتب البيضاوي قادما مباشرة من قيادة عسكرية!

وفي انتخابات الرئاسة نوفمبر 1952 أي بعد سبع سنوات على نهاية الحرب العالمية، وسنتين على التأهل للحياة المدنية كان الجنرال “دوايت أيزنهاور” يكتسح المرشح الديمقراطي “أدلاي ستيفنسون” (وهو سياسي مثقف من أرقى مستوى في أمريكا).

وكذلك فإنه في بداية استقلال الدولة الأمريكية كما في بداية الإمبراطورية الأمريكية كانت الرئاسة في يد رجل عسكري، أولهما خاض الحرب في طلب الاستقلال والثاني خاضها في طلب الإمبراطورية!

(مع ملاحظة أن التاريخ الأمريكي يعرف ما بين الاثنين أربعة من العسكريين تولوا رئاسة الدولة، ومع ملاحظة أنه في الإحصاء المعتمد لسنة 1959 تبين أن هناك مائة وأربعة وسبعين ألف ضابط سابق يشغلون مناصب مدنية في الإدارة أو في الشركات الأمريكية الكبرى).

وكانت أولى خطوات “أيزنهاور” عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة هي إنهاء الحرب الكورية مهما كان الثمن، وقد قام بنفسه بزيارة إلى عاصمة كوريا الجنوبية (سيؤول) لترتيب ما يلزم ذلك لأن “أيزنهاور” كانت له نظرية في تحقيق الأمن الأمريكي عن طريق القوة المسلحة تختلف عن المنطق الذي أدى بالرئيس “هاري ترومان” إلى السقوط في مستنقعات كوريا والضياع في وحشة تلالها وجبالها المرصوصة رصاً!

“أتاحت لى الظروف أن أغطي بنفسي وقائع زيارة “أيزنهاور” لسيؤول بقصد إنهاء الحرب الكورية، كما أتاحت لي أن أسمعه وأن أتابعه”.

كانت نظرية “أيزنهاور” في حفظ الأمن الأمريكي (أو السلام الأمريكي) قائمة على الخطوط التالية:

1 أن الولايات المتحدة لابد لها حتى تحقق أمنها ومصالحها العالمية - أن تتفوق على كل القوى الدولية الأخرى مجتمعة، وأن تكون لها غلبة في تكنولوجيا السلاح لا يلحق بها طرف، وبما أن السلاح النووي الذي “طلع فجره” على هيروشيما ونجازاكي هو سلاح الردع النهائي، فإن الولايات المتحدة يجب أن تحتفظ في ترسانتها بمخزون منه لا يسبقها فيه أحد (Second to none).

2 ومع التسليم بأن السلاح النووي يصعب بل يستحيل استخدامه في أحوال “دولية رشيدة” فإن الولايات المتحدة لا يصح أن تُفاجأ “بأحوال جنون” يسبقها فيها خصم إلى استعمال السلاح النووي بضربة أولى، ولهذا فإنها مع الاستعداد لضربة أولى استباقية لابد أن تكون جاهزة في نفس الوقت لضربة ثانية مميتة للخصم الذي تجرأ وبدأ (وكذلك ظهرت الغواصات النووية بصواريخها (طراز بولاريس) تحت سطح البحر وفي أعماق ظلامه، والفكرة أنه إذا كانت القوات الظاهرة على الأرض هي المكلفة بالضربة الأولى (إذا تأكدت ضرورتها)، فإن الغواصات المتحركة خفية تحت الماء هي ضمان الضربة الثانية وشدة تأثيرها).

3 ومع القيود المفروضة على استعمال السلاح النووي، فإن الولايات المتحدة تستطيع أن تعطي نفسها مرونة في الحركة العسكرية بالسلاح التقليدي بالاشتراك مع أصدقاء لها ينخرطون معها في أحلاف عسكرية تطوق الاتحاد السوفييتي وتطوق الصين الشعبية معه، وكذلك كان تخطيط “أيزنهاور”:

قيادة في أوروبا (حلف الأطلنطي) وهي موجودة عليها بقواتها وأسلحتها شراكة مع حلفاء الغرب (وهم بريطانيا وفرنسا) وقد انضمت إليها أكثر من عشر دول أوروبية غربية شكلت مانعا رادعا أمام الستار الحديدي.

وقيادة في آسيا حلف جنوب شرق آسيا وهي موجودة بقواتها وأسلحتها مرتكزة على اليابان واصلة إلى الملايو ومستعدة للانتشار وراء ذلك فيما كان من أقاليم الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية.

وقيادة ثالثة راح “أيزنهاور” يرتب لها، بإقامة حلف يقفل الدائرة ويحكم الحصار حول الاتحاد السوفييتي من الجنوب وهو حلف شرق أوسطي وبالفعل فقد جرى تجريب مشروع لهذا الحلف أثناء رئاسة “أيزنهاور” (حلف بغداد)، وكان ذلك سنة 1955 (السنة الثانية من رئاسته).

4 ومع تقدير “أيزنهاور” لاستحالة الحرب النووية (إلا في أحوال جنون) فإن الولايات المتحدة لا يصح لها أن تحارب بجيوشها إلا عندما تقتضي ضرورات ملحة، وفي حسابه أنه مع زيادة القوة العسكرية، فإن ظهور طاقة بطش هذه القوة يُغني عن استعمالها.

كان السلاح بالتفوق وبدون حرب هو أساس نظرية “أيزنهاور”، وكانت المؤسسة العسكرية راضية طول عهده، فقد كانت نظرية الأمن والتطبيق السياسي للنظرية في نفس المكان، لأن القائد العام للنصر وللسلام الأمريكي (وللإمبراطورية) كان هو نفسه الرئيس الجالس في المكتب البيضاوي يخطط لمعركة القرن (كما كان “أيزنهاور” يسميها)، أي أنه في ذلك الوقت لم يكن بين العسكري والسياسي حاجز أو حجاب.

وخرج “أيزنهاور” وجاء بعده رئيس آخر هو “جون كيندي”، ثم بدأت الخيوط تتشابك، وتحول تشابكها إلى عُقَدْ حين قرر الرئيس “جون كيندي” أن يتدخل في فيتنام، ثم استحكمت العقد حين اتسع نطاق الحرب في عهد خلفه “ليندون جونسون”.

وهنا راحت الخلافات تظهر شروخا ثم أخاديد بين السياسيين والعسكريين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أشهر الخلافات هو ما وقع بين الجنرال “ماكسويل تايلور” والرئيس “كيندي”، ثم بين الجنرال “ويستمورلاند” والرئيس “جونسون”.

كان الجنرال “تايلور” يعترض على طريقة استعمال قوة السلاح الأمريكي في فيتنام، وتقديره أن التدخل العسكري لا يمكن أن يجري خافتا بدون نداء صريح للحرب تصحبه درجة من التعبئة الوطنية العامة، وترك “تايلور” منصبه ليكتب كتابه الشهير “النفير المتقطع” الذي انتقد فيه سياسة الحرب على استحياء.

ثم أعقب ذلك خلاف “جونسون” مع الجنرال “ويستمورلاند” وكان على النقيض مما وقع بين “كيندي” و”تايلور” - لأن “جونسون” أعطى للقوات في فيتنام كل ما هو ممكن، لكن الجنرال “ويستمورلاند” لم يعرف حدا للكفاية رغم أن جيشه وصل في وقت من الأوقات إلى ما يزيد على نصف مليون جندي.

وفي حين أن “تايلور” كان يشكو من حرب “كيندي” على “استحياء” فإن “جونسون” راح يشكو من حرب “ويستمورلاند” “بلا قاع”.

وعندما جاء عهد “نيكسون” كانت علاقة العسكريين والسياسيين في الولايات المتحدة مشكلة حقيقية تصادمت فيها الرؤى والنظريات، كما تصادمت فيها الطبائع والشخصيات، وعندما انتهت رئاسة “نيكسون” بفضيحة (ووترجيت)، كانت المؤسسة العسكرية الأمريكية لا تكاد تخفي استهانتها بالساسة إلى درجة الاحتقار!

وفي كل الأحوال فإن المؤسسة العسكرية وفي عهود تدنى فيها مستوى الأداء السياسي ظنت نفسها مسئولة عن الأمن الأمريكي المستمر وعن الإمبراطورية الأمريكية البازغة، وكانت وسيلتها المفضلة هي مواصلة تكديس السلاح وتكثيف الجهود وراء تكنولوجيا استخدامه.

“على أن “أيزنهاور” ما لبث في أواخر رئاسته، وبعد نوبات قلبية أصابته سنة ،1956 وسنة 1958 أن ضعف سياسياً، وعندها استبد به الأرق من تداخل المصالح الإمبراطورية بين المال والسلاح والأفكار، رأى أن يحذر من العواقب صراحة في خطاب الوداع الشهير”.

“وفي النهاية فقد كان سباق السلاح هو الذي مكن الولايات المتحدة بمواردها الهائلة من قصم ظهر الاتحاد السوفييتي، ودفعه إلى عجز اقتصادي وسياسي مهين!

وفي الوقت نفسه تقريبا فإن مدد السلاح الأمريكي الذي تدفق على “إسرائيل” سنة 1973 باعتبارها الوكيل الوحيد المعتمد للقوة الأمريكية بعد فشل سياسة الأحلاف في المنطقة كان هو الذي دفع الرئيس “أنور السادات” (بتشجيع من “فيصل بن عبد العزيز” ملك السعودية، و”محمد رضا بهلوي” شاه إيران) إلى ذلك الرهان على لعبة واحدة اعتبر فيها أن 99% من أوراق قضية السلام (والرخاء!) في الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة وحدها، وفي العادة فإن الاعتقاد في شيء نصف التمهيد لوقوعه].

[وكذلك فإن نهاية الحرب الباردة تأكدت بسقوط الاتحاد السوفييتي من ناحية، وبتراجع شديد في منطقة القلب على جبهة حركة التحرر الوطني في العالم الثالث (العالم العربي) من ناحية أخرى!].

وكذلك نجح السلاح الأمريكي (والمؤسسة العسكرية الأمريكية) في الحرب الباردة، كما في الحرب التي سبقتها (الساخنة).

وبدأ عصر دولي جديد سلام إمبراطوري أمريكي يفرض حقائقه على الجميع راضين أو مُرغمين!

التفرد الأمريكي بالقوة الآن أوسع مما خطر على بال أي قيصر أو امبراطور متوّج بالغار في روما "

" في يناير 2001 عاد “دونالد رامسفيلد” إلى القمة السياسية في البنتاجون ووراءه مجموعة مصممة على أن يكون القرن الحادي والعشرون أمريكياً "

ثالثا: المؤسسة العسكرية والبيت الأبيض

عندما انتهت الحرب الباردة بسقوط حائط برلين (9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989)، كان الجيش السوفييتي يتابع المشهد مدركا من ناحية أنه دليل سقوط الدولة السوفييتية، عارفا من ناحية أخرى أن أي محاولة للإنقاذ تأخر وقتها، ولم تعد هناك فائدة من توريط الجيش فيها، خصوصا أن جزءا كبيرا من وحداته مُعَطل في جبال أفغانستان.

وكان الجيش الأمريكي في موقف يحمل شبها كما يحمل اختلافا مع موقف الجيش السوفييتي، فالجيش الأمريكي تلك اللحظة راح يتابع مشهد سقوط حائط برلين ويدرك دلالته بالنسبة للدولة السوفييتية ومع أنه سعيد بما يرى إلا أن لديه مع ذلك سببا للقلق، داعية أن هذا الذي يحدث الآن للدولة السوفييتية هو إعلان واضح بأن الولايات المتحدة الأمريكية فقدت عدوها، وأن الجيش الأمريكي فقد منافسه في سباق السلاح.

وكان “جورج بوش” (الأب) يومها رئيساً للولايات المتحدة، وكان “ريتشارد تشيني” وزير دفاعه، وكان الجنرال “كولن باول” رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، وطبقا لكلام “باول”: لقد وجدنا أنفسنا في حالة انعدام وزن لأن التهديد السوفييتي كان “حمولة المسؤولية التي تثبت خطانا على أرض الحقيقة”!

ولم تكن الحيرة مقصورة على القيادات الرسمية والعسكرية للدولة الأمريكية، وإنما امتد الأثر إلى دوائر أوسع وأوسع في محيط صنع القرار الأمريكي، وضمنها مواقع اتصال المال والفكر والسلاح داخل مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وفيها الجماعات الداعية للامبراطورية حقا لأمريكا ليس فيه “حياء” وقدر أمريكي لا يليق “التردد” إزاءه!

وفي لحظة الحيرة انهمكت رئاسة أركان الحرب المشتركة في إعادة تنظيم أوضاعها على ساحة العالم، مدركة أن الولايات المتحدة في طريقها إلى “حالة دولية” مستجدة على التاريخ، فتلك أول مرة منذ زمن الامبراطورية الرومانية تكتشف فيها دولة من الدول أنها تفردت بالقوة وحدها، مع إدراك بأن التفرد الأمريكي بالقوة الآن أوسع مما خطر على بال أي قيصر أو امبراطور متوج بالغار في روما. فالامبراطورية الرومانية في زمانها لم تكن تعرف غير حوض البحر الأبيض المتوسط وما حوله، لكن القيصر أو الامبراطور الأمريكي مدعو في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين إلى حكم الدنيا بقاراتها ومحيطاتها وفضائها الكوني أيضا وذلك وضع غير مسبوق.

وهنا فإن رئاسة أركان الحرب مضت ترتب وتحدد على أمل أن تكون مستعدة تنظيميا.

وبهذا المنطق جرى تقسيم العالم إلى خمس قيادات عسكرية رئيسية:

القيادة الشمالية: ومسؤوليتها القارة الأمريكية وفيها الولايات المتحدة نفسها.

والقيادة الجنوبية: ومسؤوليتها أمريكا اللاتينية.

والقيادة الأوروبية: ومسؤوليتها منطقة حلف الاطلنطي، بالتعاون مع القوى الأوروبية في هذا الحلف. وقيادة الباسيفيك: ومسؤوليتها جنوب شرق آسيا ومعها أستراليا.

وأخيرا القيادة المركزية: ومسؤوليتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي أن اختصاصها في التقدير الأمريكي ممتد من باكستان إلى المغرب (أي من المحيط الهندي إلى الشاطئ الافريقي للأطلنطي).

وكان حساب رئاسة أركان الحرب المشتركة أن “القيادة المركزية” هي أهم تلك القيادات الخمسة وأكثرها عُرضة لمهام “التعامل الفعلي مع تهديدات محتملة”.

والداعي أن هذه المنطقة تشمل “هلال الأزمات” على حد وصف “زبجنيو برجينسكي” على شكل نصف دائرة تحيط بما بين تركيا وباكستان، أي أن هذا الخط يعبر فوق إيران والعراق والخليج والسعودية (أي البترول) كما أن نفس الخط يحيط ب”إسرائيل” وما حولها وفيه سوريا وفلسطين والأردن وكذلك فإنه يحتوى مصر وجوارها الافريقي إلى الشرق حتى المحيط الهندي وإلى الغرب حتى شواطئ الاطلنطي يغطي في طريقه شمال أفريقيا من ليبيا إلى المغرب، ومن الخرطوم إلى مقديشو.

[كان ذلك ميدان معركة القرن العشرين، ولا يزال كذلك (وحتى إشعار آخر) ميدان معركة القرن الحادي والعشرين].

كانت رئاسة هيئة أركان الحرب الأمريكية عند مداخل التسعينات مطمئنة إلى تنظيماتها على الورق وفوق الخرائط، ولفترة سنوات قليلة (ثلاث سنوات أو أربع) كان القادة العسكريون سواء من هيئة الأركان، أو كبار الضباط المسؤولين عن القيادات الخمس يجوبون العالم شرقا وغربا وكأنهم بالفعل قناصل القيصر أو نواب الامبراطور، ففي كل عاصمة حل فيها أحدهم كان استقباله جديرا بملك، فكل قائد منهم ينزل في العاصمة التي يزورها بالطائرة الرسمية لقيادته، تنتظره المراسم اللائقة بمهابة وبأس القوة التي يمثلها، وتلفه حفاوة شديدة كأنها نوع من الاسترضاء لآلهة العصر الطالعة. وكان بعض سفراء الولايات المتحدة (التابعين لوزارة الخارجية) يُصابون بالدهشة مرات إزاء المبالغة في “مظاهر التكريم” التي يُستقبل بها القادة العسكريون، ويرونها أكبر مما يلقاه الوزراء المدنيون الأمريكيون، وهم في واشنطن أعلى درجة ومقاما، وكان التفسير السهل للظاهرة أن الوزراء الأمريكيين والسفراء هم تعبير عن “الكلمة الأمريكية” (قابلة للأخذ والرد وللجدل وأنصاف الحلول)، وأما القواد العسكريون الأمريكيون فهم تعبير عن “الفعل الأمريكي” (وفيه البطش والدمار). والحقيقة أن تلك الحالة تبدت كثيرا في تواريخ الدول والإمبراطوريات، فالقادة السياسيون في العُرف المألوف ريح والقادة العسكريون في نفس العُرف نار.

وفي واقع تفرد الولايات المتحدة بالقوة العسكرية فإن هذه “الحالة” أصابت القادة العسكريين الأمريكيين بدرجة من الدوار، حتى ان الجنرال “نورمان شوارشكوف” (قائد القيادة المركزية ابتداءً من سنة 1988 إلى سنة 1994) قام بأول زيارة له إلى منطقة اختصاصه (من كاراتشي إلى كازابلانكا) ثم عاد يقول (كما سجل بصوته في مشروع التاريخ الشفوي) “إنه احتاج إلى أسابيع عدة كي يطرد من أعصابه مفعول “جنون العظمة” الذي أصابه جراء ما لاقاه أثناء زياراته لعواصم قيادته من “إكبار وتعظيم”، فقد وجد كبار المسؤولين ممن قابلهم أثناء زيارته يتعاملون معه كأنهم ضباط ملازمون جُدد التحقوا حديثا بقيادته، وقد أسعدهم وأثار الرهبة في قلوبهم أنهم وجدوا أنفسهم فجأة في حضرة القائد العام للجيوش”!

وفي الحقيقة فإن منطقة القيادة المركزية لم تكن الساحة الأهم في التنظيم العسكري الأمريكي الجديد فقط، بل كانت أيضا المنطقة الأكثر أبهة وعزا بالنسبة لكبار الضباط الأمريكيين، فهذه المنطقة وفيها الدول العربية مشهورة بشدة البذخ والإسراف، خصوصا إزاء القوى الغالبة، وأمام ممثليها بالذات عندما يرتدون الزي العسكري ويصبحون تجسيدا حيا لقوة الفعل.

لكن ذلك كله: تقسيم العالم إلى قيادات على الورق والخرائط، وتخصيص الجيوش والأساطيل لهذه القيادات الخمس المسؤولة عن ضبط شؤون العالم لم يكن قادرا على ملء فراغ الحيرة الناجمة من السقوط السوفييتي، وتفكك الجيش الأحمر على الناحية الثانية من خط المواجهة في الحرب الباردة (بعد أن ظل مكانه أربعين سنة).

كان الكل يدرس ويبحث ويفتش عن العدو الجديد، وعن التهديد الذي يساوي أن تواصل أمريكا تعبئة مواردها الشاملة ضده، وكانت القوات المسلحة الأمريكية أول المهتمين، لأنه بدون عدو محدد وبدون تهديد ظاهر فإن “البنتاجون” ليس في مقدوره أن يذهب إلى البيت الأبيض، أو إلى الكونجرس في طلب زيادة في ميزانيات الدفاع وبرامج خاصة بتكنولوجيا السلاح.

ولم يكن الجنرال “كولن باول” راضيا عن مصادر تهديد وأعداء محتملين يدور الحديث عنهم في واشنطن تلك اللحظة، مثل مقاومة الفساد وتهريب المخدرات وغسل الأموال، وظل اعتقاده أن تلك واجبات بوليس وليست واجبات أقوى وأحدث جيش في التاريخ!

كذلك لم يكن الجنرال “كولن باول” مقتنعا بالتعويض عن طريق عمليات عسكرية تلفزيونية كتلك التي وقعت في غزو “جرانادا” وغزو “هايتي” وغزو “الصومال” ، وتقديره أن تلك العمليات “مسرحة” عسكرية، تُذَكر بالقوة الأمريكية وقدرتها على التدخل في أي وقت وأي مكان لكنها جميعا عمليات “دون المستوى”، كما أن تكرارها بعد حد معين يجعلها موضوعا للسخرية يؤثر في هيبة القوة الأمريكية ويقلل احترامها!

وفي لحظة خلل في الحساب أول أغسطس/آب 1990 جاء دخول العراق إلى الكويت هدية من السماء لصناع القرار الأمريكي، مما دعا كثيرين إلى الظن بأنه “تدبير أمريكي” وليس خطأ حسابات عراقي!

والحاصل أنه لحظة غزو الكويت تطوع طرف عربي لأداء “دور العدو”، وكان التهديد على المصالح الأمريكية حقيقيا، لأن السكوت على ضم الكويت إلى العراق معناه أن ثلاثين في المائة من احتياطي البترول المؤكد في العالم يصبح تحت سيطرة بلد واحد ورجل واحد، ومعناه أن الموازين في أكثر مناطق العالم حساسية (مواقع البترول ودولة إسرائيل) يمكن أن تتغير إذا لم يقع حزم وحسم.

وكان مما يساعد على ضرورة وإمكانية الحزم والحسم أن دول الخليج العربي وفيها السعودية إلى جانب دول أخرى في المنطقة بينها مصر وسوريا وجدت نفسها أمام تغير مفاجئ وانقلاب في المعادلات الداخلية يهز أوضاعا هشة في العالم العربي معرضة للانفراط مع أي صدمة.

وتحركت الأزمة في الخليج بسرعة طوال يوم 2 أغسطس/آب 1990.

وفي ظرف ساعات بان خطأ الأساس الذي قامت عليه الحسابات العراقية، ولوهلة لاح أن هناك احتمالا لحل عربي يساعد القيادة العراقية على مراجعة حساباتها قبل فوات الأوان، والانسحاب من الكويت مقابل ضمانات بعدم ملاحقة الجيش العراقي في وطنه بعد خروجه من الكويت (وكان “حسين بن طلال” ملك الأردن قد أخذ على نفسه احتمال هذا الحل العربي، مدفوعا بالظروف الخاصة للأردن وكانت بعض الشواهد تعطيه فرصة نجاح في مسعاه) إلا أنه لم يكد صباح يوم 3 أغسطس/آب يطلع حتى كانت مراكز صنع القرار الأمريكي مجمعة على أن الهدية التي جاءتها من السماء لا يصح أن تضيع أو تفلت مهما كان أو يكون!

وفي ساعات كان “ريتشارد تشيني” (وزير الدفاع الأمريكي وقتها) ومعه “نورمان شوارشكوف” (قائد المنطقة المركزية) قد وصلا إلى المنطقة، بادئين بزيارة الرياض ثم الاسكندرية، وكان ما كان!

وعندما انتهت حرب الخليج الثانية (أواخر فبراير/شباط 1991) كان رئيس الأركان الأمريكي الجنرال “كولن باول” واثقا أنه أمام لحظة فارقة قريبة إلى حد ما من تلك اللحظة التي واجهها سلفه الذي أحبه وأُعجب به: الجنرال “دوايت أيزنهاور”.

وكان “باول” يرى أوجه شبه بين تجربته وتجربة “أيزنهاور”:

كلاهما دفعته الظروف إلى منطقة التقاء السياسة والسلاح (“ايزنهاور” بالخدمة الطويلة في منطقة “واشنطن” خلال الثلاثينات و” باول” لسنوات طويلة في مجلس الأمن القومي بقرب عدد من الرؤساء ابتداءً من “نيكسون” وحتى “ريجان”).

كلاهما مارس قيادة تحالف بين دول وجيوش تختلف مدارسها العسكرية وتقاليدها وخلفياتها الثقافية (“ايزنهاور” في الحرب العالمية الثانية

و”باول” في حرب الخليج الثانية).

كلاهما حاول أن يبتعد عن الصخب الاجتماعي لواشنطن، وأن يعكس قدر ما يستطيع (ولو على الظاهر) صورة حياة عائلية سعيدة وهانئة - وكلاهما نجح إلى حد بعيد أن يحيط نفسه بحالة من الجد والاستقامة والنزاهة السياسية.

(بل إن أوجه الشبه وصلت فيما بعد إلى حد أن كثيرين وجدوا في “كولن باول” مُرشحا مؤهلا للرئاسة (عن الحزب الجمهوري)، وفي حين أن “ايزنهاور” قبل وتقدم فإن “باول” تردد (ربما بسبب هواجس اللون) ثم تراجع قبل اللحظة الأخيرة).

وعقب انتهاء حرب الخليج سنة 1991 راح “باول” مثلما فعل “ايزنهاور” قبله يعتقد يوما بعد يوم أنه إذا كان “ايزنهاور” قد نجح في تحديد استراتيجية القوة الأمريكية المسلحة زمن الحرب الباردة، فإنه هو “كولن باول” مُطَالَب الآن بأن يحدد استراتيجية القوة الأمريكية المسلحة في زمن ما بعد الحرب الباردة، وهو عصر انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة والغلبة.

وخلال صيف سنة 1991 وبينما حملة انتخابات الرئاسة محتدمة بين “بوش” (الأب) الذي رشح نفسه لمدة ثانية اعتمادا على نصر الخليج أمام مرشح آخر خرج من مجاهل “أركنساس” ينافسه تحت شعارات اقتصادية اجتماعية كان “كولن باول” يضع اللمسات الأخيرة على نظرية في استخدام القوة العسكرية اشتهرت باسمه “عقيدة باول” ( The Powel Doctrine ).

وكانت الخطوط الرئيسية لهذه “العقيدة” واضحة مترابطة:

1- أن كل الأفكار التي طرحت في مرحلة الحيرة (بعد سقوط الاتحاد السوفييتي) باعتبارها المسؤوليات الجديدة للقوة الأمريكية (مكافحة التهريب والمخدرات وغسل الأموال والهجرة غير المشروعة) ليست من اختصاص القوة العسكرية أصلا، وإنما تلك كلها أعمال سلطات مدنية (محاكم) أو نظامية (بوليس) لا يمكن أن تنخرط فيها أكبر قوة مسلحة في التاريخ وأول قوة متفردة بالهيمنة على مصائره.

(وفي تقدير “كولن باول” أن القوات المسلحة تستطيع في ظروف كوارث وطنية أو مالية أن تساعد في مهام إنسانية، لكن مثل ذلك يكون تطوعا واستثناء، وليس تكليفا وليس أمرا، لأن القوة المسلحة تبقى مسؤولة بداية ونهاية عن الأمن القومي وعن المطالب الاستراتيجية العُليا للولايات المتحدة).

2- أن القوة العسكرية الأمريكية وتفوقها الكاسح وتكنولوجيا سلاحها المتفوق لا يصح أن يوضع في اختبار لا يليق بها، وفي ظروف يكون النجاح فيها إما سهلا بضعف التحدي وهزاله وإما صعبا بالظروف الجغرافية والإنسانية لمواقع الأزمات على الساحة العالمية.

والداعي أن النجاح السهل رخيص، وفي نفس الوقت فإن الصعوبات الناشئة من الظروف الجغرافية والإنسانية تعطيل لقيمة السلاح الأمريكي ومهابته، (يُضاف إلى ذلك أن مثل هذا النوع من المهام يمكن تحقيقه بوسائل أخرى مثل العمل السري بالمخابرات، أو الضغط النفسي والاقتصادي، وهي في الغالب كافية دون المجازفة بعظمة القوة الأمريكية وسلاحها المهيب).

(وكان “كولن باول” في هذه النقطة مغرما بحكاية النملة والفيل وفيها أن الحرب لا تعرف قتل نملة بكتلة فيل! وإشارة “باول” هنا واضحة إلى مغامرات عسكرية سبقت مثل “جرانادا” و”هايتي” و”الصومال” وغيرها مما تورطت فيه الولايات المتحدة إما مع عدو لا يساوي أو تحت ظروف طبيعية لا تساعد).

3- إذا اقتضت ضرورات الأمن القومي وقرر الرئيس الشرعي للولايات المتحدة أن من اللازم استخدام القوة الأمريكية المسلحة ضد عدو أو تهديد فإنه يتحتم توافر ضمانات لا تخضع لمساومة أو أنصاف حلول:

تحديد هدف أي عمل عسكرى بمنتهى الوضوح والدقة.

حشد أكبر قوة عسكرية لازمة لضمان تحقيق هذا الهدف بنسبة نجاح لا تقل عن مائة في المائة، لأن هيبة الجيش الأمريكي سر قوته.

تحقيق الهدف بأقصى سرعة ممكنة، وبحيث يكون النصر المطلوب (بنسبة مائة في المائة) صاعقا حاملا رسالة إلى المستقبل تؤكد أن تحدي الولايات المتحدة لا يصح أن يطرأ على بال طرف دولي آخر الآن أو في المستقبل.

وكان “باول” قد بدأ التفكير في “عقيدته” مبكرا وعلى حد ما كتب فإنه اختبر مقولاتها في الحرب ضد العراق (1991).

أي أن عقيدة “باول” هي في المحصلة النهائية “هدف حقيقي واضح محدد بدقة وحشد كاف لإحراز نصر حاسم وتركيز سريع في قوة النيران يعرض أكثر الأسلحة تقدما على مرأى ومسمع من العالم، بحيث تبدو الحرب وكأنها عملية جراحية تجرى في معمل فضائي يتحرك في مدار بعيد عن الأرض وعن الناس”!

وحين كان “كولن باول” يضع اللمسات الأخيرة على عقيدته العسكرية، وقعت مفاجأة فقد سقط “جورج بوش” (الأب) في انتخابات الرئاسة (سنة 1992) ودخل البيت الأبيض ذلك الشاب المجهول القادم من عمق ولاية “أركنساس” وأصبح رئيسا للولايات المتحدة وقائدا عاما لقواتها المسلحة، وبدت تلك صدمة للمؤسسة العسكرية الأمريكية، ولهيئة أركان الحرب المشتركة، وكذلك لكولن باول ولعقيدته في استعمال القوة المسلحة.

وكانت للصدمة أسباب متعددة:

فالرئيس المنتخب شاب ظهر معظم أيام حملته الانتخابية يرتدي بنطلونا أزرق (جينز) وقميصا شمر أكمامه، وذلك مظهر غير رئاسي، ثم إن رجال الرئيس الجديد الذين خرجوا على الناس خلال الحملة الانتخابية كانوا على شاكلته، وهم في كل الأحوال نوع من الناس يصعب اعتبارهم رجالا ونساء “مادة رئاسية” صالحة للعمل في المكتب البيضاوي.

إن الرئيس المنتخب له سجل مُعادٍ للحرب، فقد تهرب من الخدمة في فيتنام، وأسوأ من ذلك فإنه كتب مذكرة في تبرير أسباب تهربه أسسها على منطق “أن فيتنام لم تكن في ضميره حربا عادلة”، ولذلك أعلن العصيان ورفض التجنيد، وهرب إلى منحة دراسية في جامعة أوكسفورد البريطانية، وبدا ذلك إثما لا يُغْتَفَر، خصوصا أن ضباط هيئة أركان الحرب عند بداية رئاسة “كلينتون” كانوا (بحكم جيلهم) من محاربي فيتنام السابقين، ويؤذيهم أن تقع بالرموز إساءة إلى تضحياتهم وتضحيات رفاقهم.

إن الرئيس المنتخب يجيء من أول يوم مُحاطا بفضائح أخلاقية (مثل فضيحة “بولا جونز” عاملة الفندق التي دعاها إلى غرفته وأسقط بنطلونه أمامها دون تمهيد ومثل “جنيفر فلاورز” مغنية الكاباريه التي أذاعت على الناس تسجيلات محادثات ساخنة بينها وبين الرئيس الديمقراطي المُنتخب)، ولم تقتصر الفضائح على الجنس وإنما ذاعت ونُشرت حكايات عن مضاربات في أراضي (قضية وايت ووتر)، وعلاقات مع عصابات تهريب مخدرات (حين كان “كلينتون” حاكما لولاية “أركنساس”).

ثم وقعت حوادث أكدت المخاوف (طبق رواية الجنرال “أنطوني زيني” قائد القيادة المركزية وقتها) للصحفية البارزة “دانا بريست” وهي مندوبة الواشنطن بوست في البنتاجون، ومؤلفة كتاب شهير عن العسكرية الأمريكية عنوانه “المهمة” “ The Mission” وبين الحوادث أن الجنرال “باري كافري” من رئاسة الأركان ذهب إلى البيت الأبيض لمهمة تتصل بأعمال مجلس الأمن القومي، والتقى عند مدخله بشابة من “مجموعة الرئيس الجديد” ومد يده لتحيتها على غير معرفة، وفوجئ بها تمتنع عن مد يدها لملاقاة يده، قائلة له: “إنها من جماعة تعادي الحرب ولا تتصور نفسها “تصافح جنرالا” “مدججا” بالأوسمة تغطي صدره!”.

ثم زادت نغمة مُعاداة الحرب وكثرت التقارير التي تتحدث عن مخاطر تكديس السلاح، كتبها ونشرها بعض الشبان الذين أحاطوا بالحملة الانتخابية للرئيس الجديد، وتزامن ذلك مع كلام مرسل عن ضرورة نقل “كتل كبيرة من الاعتمادات المالية في ميزانية الإدارة الجديدة من خانة الدفاع إلى خانة الخدمات الاجتماعية” وكان ذلك مقلقا.

ثم وصلت الأمور إلى احتمال مواجهة بين البيت الأبيض وهيئة أركان الحرب المشتركة عندما أعلن الرئيس الجديد عزمه على فتح أبواب الخدمة في القوات المسلحة أمام “الشواذ جنسيا” دون تمييز بينهم وبين غيرهم، ووجد الجنرال “كولن باول” نفسه مضطرا للرد على الرئيس مباشرة في مؤتمر صحفي عقده يوم 11 يناير/كانون الثاني 1993 داخل مبنى الكلية البحرية (قبل دخول “كلينتون” إلى البيت الأبيض بعشرة أيام)، قائلا دون أن ينتقي ألفاظه: “انه إذا كان هناك من يرون أن منع “الشواذ جنسيا” من دخول القوات المسلحة نوع من التحيز ضدهم، فأنا أقول إن دخولهم إهانة لجنود القوات المسلحة”. وعندما سُئل “كولن باول” عن تصرفه في حالة ما إذا قرر الرئيس المُنتخب أن يفرض رأيه رد “باول” على الفور بأن “تلك سلطة الرئيس، ولكني لن أكون هنا لتنفيذ هذه السياسة، لأني سوف أقدم له استقالتي من منصبي!”.

[وأضاف الجنرال “زيني” إلى ذلك فيما تحدث به إلى “دانا بريست”: “إن “كلينتون” لم يكلف نفسه عناء أن يتعلم كيف يرد التحية للعسكريين الذين يحيونه، فقد كان يرد برفع يده بحركة “تلقائية” مثل ما يفعل الشبان في النوادي، ومثيلاتها في المحافل الاجتماعية!”.

والظاهر أن الرئيس “بيل كلينتون” تنبه فور دخوله المكتب البيضاوي بأن علاقته بالمؤسسة العسكرية تحتاج إلى عملية ترميم وإصلاح، وليلة 25 فبراير 1993 (بعد دخوله البيت الأبيض بأسبوعين) وَجه “كلينتون” دعوة عشاء إلى كل جنرالات الأربعة نجوم في الخدمة العاملة وعددهم 16 جنرالا من الجيش والبحرية والطيران، وحرص “كلينتون” على أن لا يشارك في العشاء أحد من هيئة مكتبه، ولا من نجوم المجتمع أو الثقافة، وإنما دعا القادة العسكريين وزوجاتهم فقط حول مائدة طولها عشرة أمتار صممت على شكل هلال لتكون المواقع حولها موحية بالمساواة. وطبقا لرواية الجنرال “زيني” فإن العشاء كان فاخرا على نحو غير معهود (لوبستر عملاق من شواطئ “ماين” و”كافيار بلوجا” من بحر القلزم ودوائر لحم من عجول “أوكلاهوما”  وباقات زهر نادر تنتظم وسط المائدة، وعلى الشرفة مقابل قاعة العشاء فرقة موسيقا وترية تشيع أجواء هادئة تقوم بتلطيف المشاعر بين الرئيس الجديد وبين قواد الجيوش وأساطيل البحر والجو).

وكان “كلينتون” وزوجته “هيلاري” طول العشاء حفاوة فياضة ورقة آسرة، وكلاهما حاول رفع الحواجز مع الضيوف، فإذا “بيل” ينادي الجنرال “ويسلي كلارك” قائد منطقة أوروبا باسمه الأول مختصرا للتدليل: “ويس” كما أن “هيلاري” خاطبت الأميرال “دنيس بلير” قائد منطقة الباسيفيك باعتباره “دنيس” وهكذا.

وعندما جاء وقت شرب الأنخاب رفع “كلينتون” كأسه قائلا للقادة:

“إنني أريد فقط أن تعرفوا أنني شديد العرفان لكل ما تقومون وما قمتم به، وأتمنى أن تعرفوا أن أمريكا كلها فخورة بكم مثلي، معتزة بأنكم معي هذه الليلة”.

وفي تقدير الجنرال “زيني” (روايته لدانا بريست) أن العلاقات بين الرئيس الجديد وبين القوات المسلحة لم تتحسن كثيرا، ولكنها لم تسؤ أكثر، والحقيقة أن “كلينتون” أراد أن يعتذر للقادة عما بدا لهم غير مقبول في إدارته الجديدة، ومن جانبهم فإن القادة العسكريين اكتشفوا أنهم أمام رجل لديه الاستعداد لفهم دورهم ورسالتهم، وفيما بعد فإنه عبر عن ذلك فعلا بتنظيم استقبالات حافلة (ومُبالغ فيها) للقوات الأمريكية العائدة من حرب الخليج، وحرص على أن يشارك بنفسه فيها، وأضاف “زيني”: “إن ذلك كان تعويض “كلينتون” عن تهربه من الخدمة في فيتنام”.

! رابعا: السلاح في زمن الفضائح

قضى “بيل كلينتون” في البيت الأبيض ثماني سنوات على فترتين رئاسيتين (كل منهما أربع سنوات)، وفي فترة الرئاسة الأولى كانت العلاقة بين مكتب الرئيس وهيئة أركان الحرب المشتركة علاقة مضبوطة على الناحيتين: أدب جم وتحفظ حذر!

وفي فترة الرئاسة الثانية زحفت على العلاقة بين الناحيتين آثار فضيحة “مونيكا لوينسكي” وتفاصيل التحقيقات التي جرت حولها، ثم وقعت إدانة الرئيس أمام الكونجرس (مع عدم عزله)، وأدى ذلك إلى تشويه صورة القائد العام أمام “القوات” التي تنتظر بالدستور أوامره، وفي الحقيقة فإن آثار هذه الفضيحة قلصت “شرعية أي أمر” يصدره “بيل كلينتون”، خصوصا إذا كان القرار أصلا بين حرب وسلم أي بين موت وحياة!.

وكان “بيل كلينتون” من بداية رئاسته ذكيا، بحيث إنه اختار للدفاع وزيرا جمهوريا (على صلة بالمجموعة الامبراطورية دون أن يكون عضوا فيها) وهو “ويليام كوهين”.

وفي نفس الوقت فإن “كلينتون” حاول اختصار طلباته من القوات المسلحة إلى أبعد حد ممكن، مبديا تفهمه لفلسفة وقواعد التدخل الأمريكي المسلح في الأزمنة المتغيرة حسب عقيدة “كولن باول” رئيس الأركان الذي كان مازال في منصبه فقد ورثه عن الإدارة الجمهورية السابقة (بوش الأب)، واستبقاه معه سنة رئاسته الأولى.

وطوال فترة هذه الرئاسة الأولى وَجه “بيل كلينتون” إلى قيادة الأركان المشتركة طلبا واحدا رَحب به “كولن باول” وهو توجيه ضربة بصواريخ كروز ضد العراق (يونيو/حزيران 1993) عقابا على تهمة وُجهَت إلى النظام الحاكم فيه بأنه حاول اغتيال الرئيس السابق “جورج بوش” (الأب) انتقاما منه (على حرب سنة 1991).

وفي فترة الرئاسة الثانية وفي ظروف قدرها جميع الأطراف، وأولهم رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة الجنرال “جون شاليكشفيلي” طلب “كلينتون” مجموعة ضربات صاروخية أكثرها في العراق، وكان هذا البلد قد تحول لميدان ضرب نار بسبب أو بغير سبب، وكانت الضربة الأكبر هي ما عُرف بعملية “ثعلب الصحراء” (ديسمبر/كانون الأول 1998)، وهدفها إرغام العراق على فتح كل الأبواب أمام هيئة مفتشي الأمم المتحدة الباحثين عن أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك أبواب القصور الرئاسية، وقد دامت عملية “ثعلب الصحراء” أكثر من ثلاثة أسابيع (لكنها جميعا كانت ضربات من الجو أو بالصواريخ بعيدة المدى).

وخارج العراق فإن “كلينتون” أمر بضربتين:

واحدة ضد ما يظن أنه موقع لقيادة “أسامة بن لادن” في جبال أفغانستان (أغسطس 1998)، ردا على عملية ضد سفارات الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا. وثانية في نفس اللحظة لنفس السبب ضد مصنع للأدوية في الخرطوم عاصمة السودان بظن أنه مصنع للأسلحة الكيماوية، وأن “أسامة بن لادن” شريك فيه.

على أن البيت الأبيض حرص على أن يكون الأمر بهذه العمليات توصية من وزير الدفاع ومن هيئة الأركان أكثر منه أمرا مباشرا من البيت الأبيض، وكان الشعور العام أن “كلينتون” في تلك اللحظة مثقل بمشاكله الخاصة، ولا يستطيع أن يخرج أمام الناس بسلطة القائد العام للقوات المسلحة.

وفي هذا المناخ وفي فترة الرئاسة الثانية فإن الظِلال التي وقعت على البيت الأبيض تركت لوزير الدفاع مساحة كافية لعلاقة “سائلة” مع القوات المسلحة، أدت إلى تعادل في السلطة (إلى حد ما) بين مكتب الوزير وبين رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة، ومع هذا التعادل بالظروف بين “السياسة” و”السلاح” سادت حالة “سِلم أهلي” في البنتاجون، وتلك في العادة وبطبيعة الاحتكاك بين “السياسة” و”السلاح” حالة نادرة لأن البنتاجون مخزن توترات شديدة عانت منها إدارات سابقة ولاحقة.

على أنه في ظروف “السِلم الأهلي” في البنتاجون فإن أركان الحرب المشتركة تمكنت من توسيع مجالات نفوذها وزيادة حجم إمكانياتها:

انهمكت في تعزيز القوة الأمريكية ببرامج جديدة كثيرة في تكنولوجيا السلاح، تعزز “منطق القوة” التي لا يقدر الآخرون على تحديها.

ونتيجة لهذا التزايد في القوة فإن النفوذ العسكري الأمريكي في الخارج تمدد دون إلحاح، لأن الحقائق الموجودة على الأرض لها قدرة توسيع دائرتها بفعل حركتها الذاتية.

وفي ظروف مستجدة لا تريد هيئة أركان الحرب المشتركة أن تقوم فيها بأي مغامرات غير محسوبة أو عمليات لا تليق بهيبتها، فإن العمل العسكري الأمريكي ركز على ثلاثة بنود:

1 تكثيف نشاط المخابرات العسكرية التابعة للبنتاجون، بحيث تقدر قيادة أركان الحرب على نوع من الاستقلالية في معلوماتها.

2 توسيع شبكة القواعد العسكرية الأمريكية في عمق القارات وعلى شواطئ البحار.

3- تنشيط العمل المباشر عن طريق القوات الخاصة في مهام محددة، (حتى انه في رئاسة “كلينتون” وليس بالضرورة بقراره كانت القوات الأمريكية تباشر “مهام” في مائة وعشرين بلدا في العالم وفيها بلدان لا ترد على البال بسهولة وضمن العمليات مهام يصعب تصور أنها من تنفيذ القوات الأمريكية الخاصة!).

(كان الدور الأمريكي في “كوسوفو” مسؤولية القوات الخاصة معززة بالطيران، كما أن هذا الدور تم في إطار حلف الاطلنطي لأن البنتاجون ومعه وزير الدفاع كانوا على اقتناع رغم إلحاح “مادلين أولبرايت” وزيرة الخارجية بأن “البلقان” من اختصاص الدول الأوروبية، وأن على تلك الدول تحمل ضرائبه قبل غيرها).

وفي هذه الأجواء المواتية انطلقت المؤسسة العسكرية الأمريكية إلى نشاط غير عادي في مجال العلاقات العامة، وكان حسابها أنه مع عدم ظهور دورها مرئيا في صراعات تجري على ساحة العالم فإن التساؤلات سوف تثور عن جدوى الاحتفاظ بقوات مسلحة تحصل وحدها على نصف الميزانية الفيدرالية تقريبا، أي أربعمائة بليون دولار دون أن تكون لها على الأرض أعمال وتضحيات تؤهلها في نظر الرأي العام ونظر الكونجرس للحصول على كل هذه الاعتمادات الخُرافية.

وهكذا فإن رئاسة أركان الحرب المشتركة وعليها وقتها الجنرال “هيو شيلتون” عززت أجهزتها الخاصة للعلاقات العامة، واستخدمت عددا من شركات وخبراء هذا الفن من فنون التقديم والتجميل، وزيادة عليه فإنها أعطت نفسها حق التواجد المباشر في الكونجرس بمكتب دائم يساعد على إجراء الاتصالات وتوثيق الروابط مع أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وهيئات مكاتبهم، وتنظيم الرحلات لهؤلاء (وأحيانا عائلاتهم) إلى مناطق القيادات والتواجد العسكري في كل القارات، ثم راحت رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة تعتمد أكثر وأكثر على تسريب الأخبار، بما يجعلها مقصودة من وسائل الإعلام، لأن الأسرار معظمها هناك وفيها الكثير مما هو صالح للنشر ومثير.

وفي نفس الوقت فإن الأركان المشتركة فتحت القنوات بينها وبين المصانع الجديدة للقرار السياسي الأمريكي أي تلك المؤسسات التي أقامها تحالف “المال والفكر والسلاح” على شكل مراكز للبحث والدرس (وتعبئة السياسات وتغليفها وتقديمها ببرامج جاهزة للراغبين في الإدارة أو في الكونجرس أو في الإعلام أو غيرها من الهيئات المتنفذة).

وكانت علاقة البنتاجون بمؤسسات الدراسة والفكر من الأصل وثيقة، لكن هذا النوع من العلاقات بين الفكر المنطلق وبين المسؤولية المقيدة - معضلة حقيقية، خصوصا إذا كانت بين سابق (وجد لنفسه موقعا في مؤسسة) ولاحق (لايزال في الخدمة العاملة).

ودون حاجة إلى معلومات تفصيلية فإن قيادة الجيش الأمريكي تابعت المعركة الانتخابية بين المرشحين: “آل جور” عن الحزب الديمقراطي و”جورج بوش” عن الحزب الجمهوري بمزيج من القلق الظاهر والراحة الخفية: مبعث القلق أن الارتباك الذي طغى على العملية الانتخابية يمكن أن يؤثر في شرعية قرار الرئيس المقبل، ومن ثم يغري أطرافا دولية على تحديه. ومبعث الارتياح على الجانب الآخر أن مجيء رئاسة غير واثقة من نفسها بوساوس حول شرعيتها يفسح المجال أوسع لدور رئاسة الأركان في القرار السياسي، خصوصا فيما يتعلق بالتسليح والانتشار وإدارة الصراعات المحتملة.

وكان هناك شبه توافق على أن هناك صراعات موجودة بالفعل على أقاليم محددة:

1- الشرق الأوسط أولا، وفيه العراق (الذي وَقع الرئيس “كلينتون” في شأنه وثيقة سُميت بقانون تحرير العراق أصدرها الكونجرس سنة 1998) وكذلك الصراع العربي “الاسرائيلي” (الذي انهمك فيه الرئيس “كلينتون” في آخر شهور حكمه واستثمر فيه وقتا طويلا بدون عائد).

2- شبه الجزيرة الكورية، حيث تكاثفت الشبهات حول نوايا كوريا الشمالية التي ظهرت على ساحة شرق آسيا كطرف مشاكس جاهز لصنع أسلحة نووية، ولديه من حوافز الابتزاز ما قد يدعوه إلى المغامرة جنوبا وتفجرت قلاقل في إندونيسيا تهدد هذا البلد المتناثر ثلاثة آلاف جزيرة على مرمى حجر من الصين.

3- منطقة البلقان، وبالذات الشظايا الباقية من الاتحاد اليوغسلافي، وانعكاس تفاعلاتها على تلك المنطقة التي كانت تُسمى في زمن سابق ببرميل البارود، (حتى استطاع “برميل النفط” العربي أن يثبت أن الحريق له قدرة على الانتشار أوسع من أي انفجار!).

ولم تكن رئاسة الأركان قادرة مسبقا على تحديد مواضع اهتمام الإدارة الجديدة ديمقراطية أو جمهورية عندما يتم حسم المعركة الانتخابية، وبصفة عامة فقد كان هناك شعور شبه مستقر على أن فرص “آل جور” ترجح كفته، ومن ثم فإن السياسات والخيارات في إدارته سوف تكون استمرارا لنفس سياسات “بيل كلينتون”، لكن الحسم الانتخابي بسلطة قضاء جمهوري جاء لصالح “جورج بوش”، وكذلك عرفت قيادة القوات أن وزير الدفاع القادم إليها هو “دونالد رامسفيلد”، وكان “رامسفيلد” يشغل نفس المنصب في إدارة “رونالد ريجان”، لكنه أيامها كان مشغولا بإدارة المراحل الأخيرة من مواجهة الحرب الباردة، ولم تكن رؤاه واضحة أو محددة للمُحتمل والمُتوقَع بعدها (عندما تسقط الدولة السوفييتية، وعندما تنفرد الولايات المتحدة بالسلطة على قمة العالم!).

وفي يناير/كانون الثاني 2001 عاد “دونالد رامسفيلد” إلى القمة السياسية في البنتاجون، ووراءه مجموعة مصممة على أن يكون القرن الحادي والعشرون أمريكيا ومعه رؤية امبراطورية للقوة الأمريكية في زمن متغير وأكثر من ذلك معه أسلوب مختلف رأى ممارسته في التعامل مع رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة وقيادات القوات عموما!

كان “رامسفيلد” على اعتقاد بأن القوات المسلحة الأمريكية في حاجة إلى تغييرات واسعة، تؤهلها لمهام امبراطورية لم يعد ممكنا تركها للتطور الطبيعي في ممارسة القوة وكان على نحو أو آخر يشعر بأن القيادات الأمريكية لم تستفد بالقدر الكافي من السقوط السوفييتي، ولم تحسن بالتالي استغلال فرصته، والسبب أنها “تاهت” في ثماني سنوات من “المظاهر والشكليات” أيام رئاسة “كلينتون”، والنتيجة في تقديره:

1- أن الجيش لم يعد كما كان خاضعا للقرار المدني السياسي، وإنما تخيل بعض الجنرالات (جنرالات “كلينتون” كما راح يسميهم) أن لهم في القرار النهائي دورا وكلمة! وكان في تقدير “رامسفيلد” أن القوات المسلحة لابد أن يتأكد خضوعها للقرار السياسي، وأنه لا حق لأحد فيها أن يناقش شرعية الجالس في البيت الأبيض، وسلطته أن يأمر طالما هو هناك ولو حتى بأغلبية صوت واحد.

2- وفي تقديره (رامسفيلد) أيضا أن رئاسة أركان الحرب المشتركة تداخلت أكثر من اللازم في “مناورات السياسة”، خصوصا في الكونجرس. وغاصت بالفعل في علاقات متشعبة بحجة تسهيل حصولها على طلباتها من الاعتمادات والمشروعات، وفي مقابل ذلك جاملت الشيوخ والنواب بالمنشآت التي يمكن أن تُقام في دوائرهم الانتخابية أو تزول، واكتشف “رامسفيلد” أن هيئة أركان الحرب لها مكتب اتصال دائم في الكونجرس، في حين أن وزارات أخرى لا تقل أهمية في صنع القرار السياسي عن هيئة الأركان ليست لها مثل هذه المكاتب، بما في ذلك وزارة الخارجية.

3- وكان “رامسفيلد” يَلْمَح نفوذا زائدا لرؤساء الأركان وكبار القادة في مجال الإعلام، وقد لمح أثر هذا النفوذ فيما يُنشر أو يُذاع في الولايات المتحدة أو في الإعلام الدولي من أخبار وإيحاءات تتسرب، بل وشاهد في بعض الأحيان خططا وخرائط منشورة على صفحات الجرائد والمجلات وشاشات التلفزيون، ورأى بنفسه ما فيه الكفاية من ظهور الجنرالات في استقبالات وحفلات حي “جورج تاون” الأنيق، وسمع عن نشاط اجتماعي زائد للجنرالات وزوجاتهم وتصرفات صنعت منهم نجوما اجتماعيين وتلفزيونيين.

وكان “دونالد رامسفيلد” مصمما على أن يضع حدا لذلك كله، وأن يعيد إلى قيادة القوات المسلحة الأمريكية درجة من الانضباط، بعثرتها (حسب تعبيره) في الدهاليز والصالونات والأندية، وكذلك في الزيارات الخارجية التي كان الجنرالات قد وقعوا في غرامها لأنهم هناك في تلك الأقطار البعيدة تعلموا “كيف يعيش الملوك”!

وليست هناك تفاصيل محددة عن طبيعة المشاعر التي استقبلت بها هيئة أركان الحرب المشتركة والقوات المسلحة الأمريكية تعيين “دونالد رامسفيلد” وزيرا للدفاع في الإدارة الجديدة، لكن الإشارات تلتقي عند نقطتين:

أن اللقاء الأول بين “دونالد رامسفيلد” وبين الجنرال “هيو شيلتون” رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة لم يكن لقاء سعيدا، فخلاله تحدث “رامسفيلد” باستفاضة حول رؤوس موضوعات كبيرة أراد أن يضعها على المائدة مبكرا:

أن إدارة “جورج بوش” لديها جدول أعمال يقصد إلى ترتيب الأوضاع في نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة وحدها، ومع أنها على استعداد لأن تخصص مساحات فيه لأطراف أخرى، فإن هذه الأطراف ليس لها الحق في تعديل جدول الأعمال، وإنما لها الحق فقط أن تقرر إذا كانت تريد أن تتواجد في النظام أو تغيب عنه.

ثم إن تنفيذ جدول أعمال الإدارة يلقي بمسؤولية كبيرة على القوات المسلحة الأمريكية التي يقدم لها دافع الضرائب الأمريكي كل ما تحتاجه لكي تقوم بما يُطلب منها، وهو (رامسفيلد) مطلع على الاستراتيجية التي سادت طوال إدارة “كلينتون”، لكنه ليس مقتنعا بها، لأن فكرة الاحتفاظ بجيش قوي مع الاعتقاد بأن حجم القوة يغني عن استعمالها يبدو له غير منطقي، لأن السياسة في رأيه مزيج من قوة الإقناع مع قوة الإرغام في نفس اللحظة، والانتظار في استعمال القوة حتى يجيء التهديد الذي يستحق معناه السماح للتهديد بأن يكبر ويصبح خطرا حقيقيا بدلا من ملاقاته بضربة وقائية قبل أن يتأكد ويصبح تهديدا قائما.

إن الرئيس المُنتخب فَوض وزير الدفاع (أي هو رامسفيلد) في كل ما يخص القوات المسلحة، ونظرا لوجود جدول أعمال مُتفق عليه، ولأهمية وضعه للتنفيذ بأسرع ما يمكن فإن وزير الدفاع لديه “سلطة الرئيس” كاملة في هذا الشأن.

وحين سأله الجنرال “شيلتون” عما إذا كان يقصد بقوله ان رئيس هيئة الأركان المشتركة ليس له حق الاتصال مباشرة بالرئيس، رد “رامسفيلد” قاطعا: “إن ما فهمه الجنرال “شيلتون” صحيح!”. وحين حاول “شيلتون” أن يُذّكر وزير الدفاع “بأن رئيس هيئة الأركان المشتركة هو المستشار العسكري الأول للرئيس” رد “رامسفيلد” بسرعة بما مؤداه: “إن ذلك أيضا صحيح، لكن رئيس الأركان يعطي ما لديه لوزير الدفاع، وذلك قرار الرئيس الجديد، وهو رجل له في إدارة الدولة منطق يختلف وشخصية تختلف عن غيره، (والإشارة واضحة إلى إدارة “كلينتون”).

إن رئاسة أركان الحرب المشتركة بدأت تشعر بنوع من الدهشة حِيال اختيارات وزير الدفاع الجديد لمعاونيه المدنيين في البنتاجون، فقد أعلن عن تعيين “بول وولفويتز” نائبا للوزير، و”ريتشارد بيرل” رئيسا لمجلس سياسات الدفاع، و”دوجلاس فيث” وكيلا لوزارة الدفاع (وثلاثتهم يهود!) مقربون من “دونالد رامسفيلد”، كما أن الثلاثة من مهندسي وراسمي ما أطلقوا عليه “مشروع الولايات المتحدة للقرن الأمريكي الجديد”.

وكانت رئاسة هيئة الأركان المشتركة على عِلْم بهذا المشروع، وحسبته بادئ الأمر تيارا يطرح نفسه إلى جانب تيارات أخرى، لكنها الآن ومع إدارة “بوش” الجديدة تأكدت أن ذلك المشروع أصبح الاستراتيجية المُعْتَمَدَة للولايات المتحدة، خصوصا أن الرجل الذي وُضع المشروع تحت إشرافه وتوجيهه كان “ريتشارد تشيني” نائب الرئيس الجديد، والرجل الأقوى في الإدارة بحسب ما هو ظاهر ومستقر في الأذهان!

ولم تكن رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة تعارض المشروع الامبراطوري، فهو على نحو عام متوافق مع توجهات الاستراتيجية الأمريكية من أعقاب الحرب العالمية الثانية وطوال الحرب الباردة وبعدها لكن وجوه الاختلاف متعددة في ترتيب البنود والأولويات، وكذلك على السرعة التي يتم بها التنفيذ، وأخيرا على توزيع المسؤوليات والأدوار!

كان مشروع “المجموعة الامبراطورية” التي أمسكت بمقاليد السلطة في إدارة “بوش” محددا إلى درجة لا تحتمل اللبس، خصوصا في صياغة المقدمة التي مهدت له، والتي تبدت فيها ثلاث نقاط قاطعة في النصوص مثل نصل السيف:

“إن الهدف الأمريكي لابد له أن يكون تحقيق واستبقاء سيادة أمريكية عالمية تستبعد ظهور قوى أخرى منافسة في المستقبل، بحيث تتمكن الولايات المتحدة بفضل هذه السيادة من تشكيل قواعد الأمن العالمي على مثال المبادئ والمصالح الأمريكية”.

“الاستراتيجية العُليا للولايات المتحدة مسؤولة عن هذه السيادة الأمريكية مدها في المستقبل إلى أبعد مدى ممكن، وفي ضرورات هذه الاستراتيجية أن تكون مستعدة للقتال بحزم، وتحقيق النصر في مواجهات متزامنة على ميادين متعددة في نفس الوقت، بحيث تستوفي كل مواجهة على أي ميدان حقها، وكأنها ميدان القتال والنصر الوحيد”.

“نقطة الارتكاز في الجهد الأمريكي الجديد هي منطقة الشرق الأوسط والخليج، ومع أن الولايات المتحدة كانت تسعى منذ حقب عديدة للسيطرة العسكرية الكاملة على الخليج فإن ذلك لابد أن يتحقق على الفور سواء كان نظام “صدام حسين” موجودا في السلطة أو أُزيح منها. إن الأمن الاقليمي لهذه المنطقة يعطي مشروعية لإزاحة النظام الحاكم في العراق، لكن تحقيق وجود عسكري كثيف مُسيطر على الخليج أمر يتعدى مسألة نظام “صدام حسين”.

وتجيء في نهاية “نص المشروع عبارة حماسية تقول: “إن القوات المسلحة للولايات المتحدة عليها أن تتولى القيادة بروح “فرقة الفرسان” في الحدود الأمريكية الجديدة”.

وفي الاجتماعات الأولى لمجلس الأمن القومي على عهد إدارة “بوش” طُرح المشروع الجديد بمقدمته وبصُلبه، واستمع ممثلو رئاسة الأركان المشتركة لكل ما قيل، وحين جاء دورهم في التعليق بدا أن الشكوك تساورهم، وقد لخص رئيس هيئة الأركان المشتركة أسبابه في نقطة رئيسية مجملها “أنه إذا كان الشرق الأوسط والخليج هما نقطة ارتكاز الاستراتيجية العُليا الأمريكية، فإن هناك تمهيدا لابد منه أولا وهو التوصل إلى حل للصراع العربي “الاسرائيلي”، لأن هذا الصراع ومضاعفاته ثم زيادة توترات إضافية عليه نتيجة لتواجد أمريكي كثيف في المنطقة يمكن أن يؤدي إلى عواقب يصعب حسابها” .

وكان رأي “دونالد رامسفيلد” كما طرحه في اجتماع حضره رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة بصيغة السؤال:

هل تواجدنا العسكري الكثيف في الخليج، مع إمكانية تصفية النظام الحاكم في العراق يساعد أكثر على حل الصراع العربي “الاسرائيلي”؟...

أو أن الحل المُسْبَق للصراع العربي “الاسرائيلي” هو الذي يساعد أكثر على تسهيل تواجد أمريكي كثيف في الخليج؟

وظهر اتجاه “رامسفيلد” ظاهرا منذ بداية المناقشة، ومؤداه أن “الحسم في العراق” يساعد على “الحسم في فلسطين” وليس العكس!!

وفي أجواء هذه المناقشات في واشنطن جاء “كولن باول” بنفسه إلى منطقة الشرق الأوسط (مارس 2001) يقابل حُكامِها برسالة من الإدارة الجديدة مؤداها: “العراق هو الأزمة، وفلسطين هي المشكلة، والأزمة أولى بالعلاج قبل المشكلة”.

ولم يستطع “باول” إقناع أحد بمنطق رسالته، وفي الحقيقة فإنه هو نفسه لم يكن مقتنعا بها، وكان رأيه ومن تجربته السابقة في حرب الخليج (الثانية) أن فلسطين هي “أم الأزمات” في المنطقة.

وعندما عاد “كولن باول” إلى واشنطن بدا أنه لم يستطع إقناع غيره، وأولهم وزير الدفاع “رامسفيلد”، ومعه المجموعة الامبراطورية المحيطة به، ومعنى ذلك ومن باب أولى أنه لم يلق من الرئيس “جورج بوش” أذنا مصغية.

وفي الوقت نفسه فإن هيئة أركان الحرب المشتركة راحت تبدي قلقها من جو مشحون بالتوتر والتربص أشاعه وزير الدفاع “دونالد رامسفيلد” بتصرفاته، وأسوأ من ذلك بخططه التي يريد فرضها دون مناقشة، وكان “بعضهم” في رئاسة أركان الحرب المشتركة قد رأى أن يتحدث في “الأوضاع الجديدة” مع “كولن باول” وزير الخارجية، وهو نفسه في الأصل جنرال رأس إلى عهد قريب هيئة أركان الحرب المشتركة، وصاغ العقيدة الاستراتيجية المعروفة باسمه، والتي سادت بالفعل ثماني سنوات (طوال رئاسة “كلينتون”) حتى هذه اللحظة (من رئاسة “جورج بوش” الابن).

وكذلك سمع “كولن باول” أن وزير الدفاع الجديد يتحدث الآن عن احتمالات تدخل بالسلاح على نحو غير تقليدي، يتضمن درجة ما من استعمال القوة لا تصل إلى درجة الحرب الشاملة لكنها تزيد عن الحروب التلفزيونية التي مورست في عصر “ريجان” (جرانادا وبنما وهايتي).

وكان “رامسفيلد” يطلب من هيئة الأركان أفكارا ويستثير خيالا.

وكان أسوأ ما سمعه “كولن باول” من أحاديث رفاقه القدامى أن وزير الدفاع يتحدث عن عمليات في العراق، وحين وُضِعَت أمامه الخطط الجاهزة أبدى أننا في الظروف الجديدة نحتاج إلى شيء آخر، وبدا ذلك لسامعيه خطرا.

وطبقا لروايات تتردد في واشنطن فإن “كولن باول” حاول أن يناقش أحوال البنتاجون مع “دونالد رامسفيلد”، لكنه وجد وزير الدفاع يلفت نظره إلى “أنه (أي كولن باول) وزير الخارجية الآن وليس رئيس الأركان” ثم كان أن “رامسفيلد” (كما يتردد في واشنطن) ذهب إلى نائب الرئيس “ريتشارد تشيني” يقول له: “إنه (كولن باول) يمكن أن يؤثر في الانضباط في القوات المسلحة إذا راح يسمع من كل “ماجور” وكل “كولونيل” في القوات المسلحة”. وفيما يظهر فإن الرئيس “جورج بوش” طلب بنفسه من “كونداليزا رايس” (مستشارة الأمن القومي) “أن تلفت نظر “كولن” بحزم إلى أنه لا يستطيع أن يتصل بقادة القوات من وراء ظهر وزير الدفاع”.

وفي تلك الأوقات (ربيع سنة 2001) كانت واشنطن تعرف أن وزير الخارجية في أزمة، وأنه شبه معزول عن دائرة القرار الأعلى في الإدارة الجديدة، وكان “باول” يحاول جاهدا أن يكسر الحصار غير المرئي الذي أحاط به، وفي ذلك الوقت فإنه كما يروي أصدقاؤه انتهز فرصة لقاء مع أحد الرجال المقربين إلى الرئيس (وفيما تقول به الروايات فقد كان ذلك الرجل هو “جورج بوش” (الأب) الذي عرفه “باول” خلال خدمته أثناء حرب تحرير الكويت وتعاون معه عن قرب)، وكما تقول الروايات فإن “باول” أبدى:

إنه يريد للإدارة الجديدة أن تنجح بغير حدود.

ولا يريد أن يتسبب في حساسيات ومشاكل حول الاختصاصات.

وليس في نيته أن يتشاجر أو يفتعل شجارا مع وزير الدفاع.

ولكنه مع ذلك يرى أن هناك “مسلمات أولية” يستحسن أن يتفق عليها الجميع:

1- ففي كل هذه الخطط المطروحة أمام الإدارة لإقامة نظام عالمي أمريكي (لم يستعمل “باول” وصف الامبراطورية) فإنه من المفهوم أن هناك المسؤولية كبيرة على القوات المسلحة، ولهذا فإن هيئة أركان الحرب المشتركة لابد أن تكون في الصورة “بالعمق”.

2- إذا كان الشرق الأوسط هو ميدان “الاندفاعة الرئيسية” ( Main Thrust  ) وإذا كان العراق هو الهدف المحدد الآن فإن جهدا مكثفا لابد أن يُبذل لحل أو تجميد شحنة الصراع العربي “الاسرائيلي”.

3- وربما أن هذا الجهد السابق الذي بذله “كلينتون” في أواخر رئاسته يمكن اللحاق به وتنشيطه بحيث يمكن التوصل إلى مبادئ حل يجمد فلسطين، ويفتح الطريق إلى غيرها (العراق).

ولم تكد تمض أيام حتى أُعلن في واشنطن أن الجنرال “أنتوني زيني” قائد القيادة المركزية السابق والذي يعرف المنطقة جيدا قد عُين ممثلا للرئيس في الشرق الأوسط، مكلفا بالتوصل مع الأطراف إلى حل لأزمة “النزاع “الاسرائيلي” الفلسطيني”.

وكان “زيني” اختيارا مقصودا (يجمع ما بين وزارة الدفاع ووزارة الخارجية).

فهو جنرال من البنتاجون تحت قيادة “رامسفيلد”، وهو صديق قديم ل “كولن باول” ، ثم هو على معرفة متصلة بكل ملوك ورؤساء الدول العربية (وكذلك ساسة إسرائيل) فقد كان معهم حتى أسابيع قليلة قائدا للقيادة المركزية المسؤولة عن الشرق الأوسط وما حوله.

وجاء الجنرال “زيني” إلى المنطقة وانتقل من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا، وراح يجمع ويحاول الإمساك بأطراف الخيوط ويجرب أن يشبك بينها.

وفجأة وقعت حوادث 11 سبتمبر/أيلول2001.

وبدت الولايات المتحدة كلها في حالة انكشاف خطر أمام العالم كله وبدا مطلوبا من القوات المسلحة الأمريكية أن تتحرك بسرعة لأداء دور في تغطية هذا الانكشاف!