الإمبراطورية على الطريقة الأميركية

الأكبر والأسرع والأسهل

محمد حسنين هيكل

لدى الشعب الأميركي باستمرار غرام بالأرقام القياسية، واهتمام باحتكارها من الأقوى إلى الأكبر، ومن الأعلى إلى الأسرع، ومن الأطول إلى الأعرض وإلى ما لا نهاية له من أفعال التفضيل في وصف كافة مجالات الحياة.

وفي جدول الأرقام القياسية على مسار التاريخ من بدايته إلى نهايته (إذا كانت للتاريخ نهاية) فإن الصعود الإمبراطوري الأميركي هو قصة تتفوق على غيرها، لأنه في حدود قرن لا يزيد (القرن العشرين) تمكنت الإمبراطورية الأميركية أن تصبح الأقوى، والأكبر، والأعلى، والأطول، والأعرض كله في الوقت نفسه.

والشاهد أن الزحف الإمبراطوري الأميركي بدأ حركته في التسعينيات من القرن التاسع عشر مباشرة عقب انتهاء الحرب الأهلية في أميركا وفور تضميد جراحها، وعندما حلت تسعينيات القرن العشرين كان الانتشار الإمبراطوري الأميركي قد غطى وجه الكرة الأرضية، وكانت الإمبراطوريات الأخرى بما فيها الإمبراطورية الروسية وهي الوحيدة التي بقيت بعد الحرب العالمية الثانية قد تهاوت بنفاد الموارد، أو نفاد الجهد، أو نفاد الإرادة!

ويمكن أن يُقال إن الإمبراطورية الأميركية فهمت واستوعبت دروسها من كل ما قابلته على أرض الواقع، أو من بطون الكتب، أو من قصص المغامرات بل ومن قصائد الشعر وأدب الرحلات!

من أرض الواقع، التقطت الولايات المتحدة أهمية الانتشار السريع وتركيز القوة، ففي تجربة إنشائها كان هاجس أهلها حيث وصلوا هو ملء قارة بأكملها من المحيط إلى المحيط على عجل، ثم توحيد أقاليم هذه القارة بالسلاح لأنه الأسهل والأنجح بحيث يكون هؤلاء الذين تمكنوا من أغنى قارات الأرض في وضع يسمح بتجميع طاقاتها، وبناء قاعدة مأمونة لحياتهم عليها في حماية أوسع المحيطات.

ومن بطون الكتب كان من حظ الولايات المتحدة أن وحدتها كدولة وقد تحققت بوحشية الحرب الأهلية بتكلفة نصف مليون قتيل، وهو ما يزيد على أي خسائر بشرية تكلفتها في أي حرب عالمية خاضتها توافقت مع الوقت الذي كانت فيه أصداء نظرية “داروين” عن “أصل الأنواع” (قصة النشوء والارتقاء) تملأ الأجواء، وتشرح لدنيا بهرتها كشوفات الجغرافيا والعلوم درسا مؤداه، أن “البقاء للأقوى”، وأن الفائزين في صراع الحياة هم الأقدر على التكيف والتلاؤم ومغالبة العوائق وإزاحة غيرهم. ومع أن صراع الحياة شغل أوروبا (كما شغل أميركا)، فقد كان درس البقاء للأقوى حياً في الممارسة الأميركية المستجدة، وبعيدا في الذاكرة الأوروبية المعتقة، ثم إن الغِنى الأوروبي من مكتسبات الثقافة والفنون كان في استطاعته ترويض الغرائز، ووضع شيء من العقل في رأس الوحش (الدارويني) الذي هو أقدر المخلوقات على البقاء!

ومن قصص المغامرات أعجبت الولايات المتحدة بالقرصان الشهير الكابتن “مورغان” (الذي تمكنت أسرته في عصور لاحقة من العثور على كنزه واستعملته في رأس مال بنك مورغان العتيد) وكان الإعجاب الأميركي بمورغان استيعابا لفلسفة ذلك القرصان الذكي، وجوهرها يظهر في مقولته: “أن القرصان العادي هو الذي يغير على السفن المسافرة ويقتل ركابها الأبرياء وينهب حمولاتها من الأشياء والنقود، وأما القرصان الذكي فإنه لا يغير إلا على سفن القراصنة الآخرين، ينتظرهم قرب مكامنهم عائدين مُحَمَّلين بالغنائم، مجهدين من القتل والقتال، ثم ينقض عليهم محققا جملة أهداف:

- يحصل على كنوز عدة سفن أغار عليها القرصان العادي في رحلة شاقة وطويلة لكن القرصان الذكي يحصل عليها جاهزة بضربة واحدة.

- لا يرتكب بالقرصنة جريمة، لأنه نهب الذين سَبَّقوا إلى النهب، وقتل الذين سَبَّقوا بالقتل وعليه فإن ما قام به لم يكن جريمة وإنما عقاب عادل، ولم يكن قتلا وإنما هو القصاص حقا.

- إن القرصان الذكي بهذا الأسلوب يصنع لنفسه مكانة وهيبة تذكرها تقارير النهار وتتذكرها حكايات الليل!

ومعنى تطبيق أسلوب الكابتن “مورغان” أن الولايات المتحدة لا تشغل نفسها بالسيطرة على بلدان مفردة وإنما تأخذ الأقاليم بالحزمة، ولا تبلع الدول لقمة بعد لقمة، وإنما تبلع المائدة الإمبراطورية بكل ما عليها، بما في ذلك الأطباق والأكواب، وأدوات الطعام والمفارش أيضا (وذلك متسق بثقافة التجربة مع الاستيلاء على قارة بأكملها عامرة بكل ما تحمله في بطنها وعلى ظهرها)!

كانت بداية الحلم الإمبراطوري الأميركي الذي خرج ليقوم بدور “آكل الإمبراطوريات” أواخر القرن التاسع عشر هي البدء بالأقرب، أي: إمبراطوريات أسبانيا والبرتغال فتلك قوى أصابها الوهن بعدما أفسدها الذهب المنهوب من كنوز قبائل وشعوب أميركا اللاتينية، ومع ذلك فهي لا تزال مصممة على ادعاء العظمة في جنوب ووسط نصف الكرة الغربي تحسب نفسها سيدة ممتلكات تعتبرها لها بحق الاكتشاف والفتح.

وكانت الإغارة على ممتلكات أسبانيا والبرتغال مهمة سهلة إلى حد كبير، ولعلها فتحت شهية الإمبراطورية الجديدة وأكدت لها مرة أخرى صحة نظريتها في الإغارة على الإمبراطوريات السابقة للحصول على كل شيء ومرة واحدة وليس على مراحل أو على آجال، تتغير خلالها الموازين.

ومع بداية القرن العشرين كانت الولايات المتحدة منهمكة تدرس أحوال إمبراطوريات أوروبا، سواء منها المتهالكة بطول السنين أو تلك المتماسكة تصلب عودها وتعطي نفسها عمرا متجددا بكل الوسائل!

كان ذلك شاغل الولايات المتحدة الأميركية عارفة أنها تخالف به وصية الجنرال “جورج واشنطن” مدركة وهي تتابع مجرى الحوادث في أوروبا (بعد توحيد ألمانيا وحرب السبعين وسقوط دولة نابليون الثالث ومشهد كوميونة باريس المؤذن بعصر من الثورات الاجتماعية) أن القارة القديمة مقبلة على حرب عالمية لإعادة توزيع المستعمرات وشعورها بأن الفرصة سانحة لها لتخرج إلى أعالي البحار.

وكان التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة هو كيف يمكن إزاحة تلك الإمبراطوريات القديمة والاستيلاء على ممتلكاتها بتطبيق أسلوب الكابتن “مورغان”، حتى وإن كانت تجربة الحظوظ في بحار بعيدة ضد إمبراطوريات ما زالت متعافية، يعني أن المهمة هذه المرة أصعب فقد كانت إمبراطورية كل من أسبانيا والبرتغال موجودة في حوض المياه الأميركي، كما أن كلتا الإمبراطوريتين نزل عليها الغروب فعلا وأما في حالة الإمبراطوريات الأوروبية فإن عملية الاستيلاء سوف تتم على الشواطئ البعيدة، والشمس هناك بعد الظهر!

وكذلك مضى الزحف الإمبراطوري الجديد من أول خطوة بالعنف، وفي حين أن الإمبراطوريات السابقة مارست زحفها تسللا، فإن الإمبراطورية الأميركية مارسته اقتحاما. وعلى سبيل المثال وفي حالة الإمبراطورية البريطانية فإن بدايتها الهندية تركزت في نشاط شركة الهند الشرقية البريطانية، والذي حدث أن الشركة قامت أولا بإنشاء مراكز لتجارتها على شواطئ البنغال، مهمتها أن تقوم على تفريغ سفن الشركة الحاملة لبضائعها من إنكلترا (أو من غيرها) وتحافظ عليها في مخازنها حتى مواسم شحنها إلى الداخل. وفي نفس الوقت تستقبل منتجات ومحاصيل الداخل لوضعها على السفن تعود بها إلى إنكلترا (أو غيرها). وكان مطلع الظهور الإمبراطوري المسلح في الهند، حراس مخازن شركة الهند الشرقية، ثم تحول حراس الشركة إلى شبه قوة مسلحة خاصة، ومرت مئة سنة قبل أن يلحق جيش إنكليزي نظامي بمليشيا شركة الهند الشرقية التي أصبحت بذاتها نواة حكومة الهند، وهي واحدة من أرقى البيروقراطيات التي عرفها تاريخ علم الإدارة! حتى بلغ من كفاءتها أنها قامت بدور حكومة بريطانية موازية في دلهي للحكومة البريطانية الأصلية في لندن، وساعدتها على ذلك دواعي التمدد الإمبراطوري البريطاني وضرورات حماية الممتلكات البريطانية وكانت هذه مسؤوليات تقتضي من قبل ثورة الاتصالات الحديثة تفويضا واسعا للأطراف، بسبب وجود المركز بعيدا في الزمان قدر بعده في المكان، وكذلك أصبحت حكومة الهند الاستعمارية مستودع خبرة إمبراطورية هائلة، ومدرسة عالية الكفاءة تخرج منها أكفأ الوزراء والمشرعين والدبلوماسيين والإداريين في مختلف مجالات الخدمة العامة في “لندن” عاصمة الإمبراطورية ذاتها.

ولم تكن تجربة الإمبراطورية الأميركية تسمح لمثل هذا النموذج بأن يتكرر، بل على العكس فالإمبراطورية الأميركية تصادف توسعها وانتشارها مع ثورة في وسائل الاتصال سمحت بإدارة هذا التوسع والانتشار من واشنطن مباشرة، كما أن الإدارة جرت باندفاع يتعجل تحقيق مطالبه. ومع أن اللغة الناعمة بدت في بعض المناسبات مستعارة من تجارب إمبراطورية سابقة، فإن الاندفاع والعجلة والعمل المباشر من واشنطن لم تلبث جميعها حتى كشفت وجها آخر يغلب عليه العنف والقسوة وهو حتمي عندما لا تكون القوة مهيأة بالتجربة لحكمة الصبر، ولا تكون الثقافة كافية لترويض الغرائز، وفي مطلق الأحوال فإن مخالب النسر (وهو شعار الولايات المتحدة) لم تخلق مناسبة لغطاء قفاز من جلد أو حرير!

المهام الإمبراطورية المقدسة والإلهية

في الفصل الرابع من كتابه الموثق عن “الإمبراطورية الأميركية” يحكي مؤلفه “ستانلي كارنوف” بالتفاصيل سياسةً وأدبا حكاية التوسع الأميركي في آسيا، ومن الغريب أن “كارنوف” يختار لهذه الفصول عنوانا يقول “أميركا تتجه إلى العولمة”.

ويقدم “كارنوف” لحكايته بتحليل مستفيض للفكر الأميركي في تلك اللحظة الإمبراطورية من أواخر القرن التاسع عشر تسعينيات ذلك القرن ويعرض مجموعة ملاحظات في موضعها الصحيح:

أن الولايات المتحدة نشأت ونمت بطبائع الجغرافيا والتاريخ دولة متحركة لا تطيق الوقوف مكانها، وتعتقد أن الوقوف لا يكون إلا استسلاما لحصار أو تمهيدا لتراجع، أي إن غرائزها ودوافعها تحفزها دائما لأن تتقدم وتتقدم تنتشر وتنتشر.

وحتى تلك اللحظة من الزمن أواخر القرن التاسع عشر كان التقدم والتوسع يجري على أساس ملء المساحة من خط الماء (الأطلسي) إلى خط الماء (الباسيفيكي)، وقد قبلت الولايات المتحدة ضريبة الحرب الأهلية لهذا السبب وحده وهو ملء المساحة من الماء إلى الماء بدولة واحدة قوية.

وكان الوصول من الماء إلى الماء عملية تمت بسلاح النار معظم الأحيان، وبسلاح الذهب بعضها، لأن عددا من الولايات مثل لويزيانا وآلاسكا جرى شراؤها بالذهب (وكان استعمال الذهب في شراء الولايات أكثر عدلا من استعمال قطع الزجاج الملون ملء قدح من الخرز وهو بالضبط ما دفعه مهاجرون هولنديون في صفقة شراء جزيرة “مانهاتن” قلب نيويورك).

وفور انتهاء الحرب الأهلية فإن الولايات المتحدة مضت تتطلع عبر الماء على الناحيتين إلى آسيا وأوروبا، وتشعر بهدير محركاتها الداخلية توجهها إلى الشواطئ البعيدة، بادعاء “مهمة مقدسة” و”قدر محتوم” يكلفها بملء كل فراغ على الأرض، وتغطية أي غياب للبشر والأميركيين بخاصة عن موارد الثروة والغِنى. وبالطبع كان اتجاه آسيا عبر الباسيفيكي هو الأفق المفتوح ينتظر، لأن الولايات المتحدة لم تجهز بعد لأوروبا، والمهاجرون بموروث ذكريات خفت ولم تتلاش مع السنين ظلوا واعين أن أوروبا دول قوية، وأن مواقع مواردها وثروتها ليست فراغا ينتظر “تكليفا مقدسا” أو “قدرا محتوما” تحمله أميركا.

ويورد “كارنوف” في التعبير عن التطلع الأميركي إلى الأفق الآسيوي، قصيدة لشاعر أميركا الكبير “والتر ويتمان” يقول مقطع منها:

عندما أقف على شاطئ كاليفورنيا وأمد البصر إلى بعيد، 
أسأل بلا كلل أي شيء هناك وراء هذا البحر لم يُكتشف بعد. 
أشعر وما زلت طفلا صغيرا على هذه الأرض أننى رجل كبير. 
وأن ذلك الأفق اللامتناهي الذي يظهر أمامي، 
يناديني أن أعبر الماء حتى “أحيط بالمحيط”!

لكن داعي الأفق يستطرد “كارنوف” لم يكن خيال شعراء، بل مطلب جماعات مصالح تبحث عن مجالات للتوسع تلبي هاجس أميركا الدائم إلى الانتشار، فقد تجمع رجال صناعة، ومُلاك ترسانات سفن، وأصحاب بنوك راكموا أرباحا طائلة أثناء الحرب الأهلية، ثم أصبحت خشيتهم بعد انتهائها أن تتقلص رؤوس أموالهم أو تذوب. وفي صحبة هؤلاء كان هناك عسكريون خصوصا من الأسطول (الذي لعب دورا مهما في الحرب الأهلية) يرون أن الولايات المتحدة الأميركية مطالبة بالخروج من القارة، لأن “المحيطات الحامية” يمكن أن تتحول إلى “المحيطات العازلة” فإذا أُريد لها أن تستبقي مهمة الحماية على الناحيتين، فمن الضروري إذن عبورها إلى بعيد، والتمسك عند هذا البعيد بمواقع تلعب دور محطات الإنذار تمكن من الدفاع، أو تكون مراكز انطلاق إذا ما استجدت حاجة لهجوم.

وسنة 1890 وتحت ضغوط المُنادين بالتوسع والانتشار، أقر الكونغرس اعتمادات لبناء خمس عشرة مدمرة حديثة، وست بوارج “ذات قوة نيران غير مسبوقة”، لكي يكون من ذلك أسطول بحري يوازي الأسطول الألماني ! وأطلق ضباط البحرية يتزعمهم الأميرال “ستيفن لوس” دعوة تنادي بضرورة أن تتحول الولايات المتحدة إلى دولة حرب، “لأن الحرب تجربة ليس لها نظير في تمتين وحدة الشعوب، وكشف صلابة معدنها، وتنشيط هممها، وتفتيح عقولها، وداعيها إلى حُسن استغلال مواردها المادية والمعنوية”.

وبلغ من قوة النداء المطالب بالانتشار والتوسع أن بعض الداعين إليه أخذوا زمام الأمور في أيديهم وتصرفوا على مسؤوليتهم وباختلاق الفرص وتلفيقها، وكان من هؤلاء قنصل أميركا في جزر هاواي “جون ستيفنس” الذي حَرَّضَ مجموعة من زُراع القصب الكِبار وعددا من أصحاب الأموال وطائفة من قساوسة الكنيسة لكي يقوموا بانقلاب على ملكة الجزر الأسطورية “ليلي أوكولاني”، وبالفعل جرى ترتيب الانقلاب على الملكة أثناء وجود السفينة الحربية الأميركية الزائرة “بوسطن”، وكان بحارتها الذين نزلوا إلى الشاطئ لتعزيز حركة الانقلاب، هم الذين أخذوا العلم الأميركي من دار القنصلية الأميركية ورفعوه على القصر الملكي في “هونولولو”، ثم كتب القنصل تلغرافا إلى واشنطن يقول بالنص:

“لقد استوت ثمرة الكمثري في هاواي، وهذه ساعة قطفها”.

ثم عاد القنصل يعزز تلغرافه الأدبي بتقدير عملي للموقف يقول فيه:

“إن “واجبات الشرف” تحتم علينا أن نحتل هذه الجُزُر ملكا خالصا للولايات المتحدة، وإذا لم نفعل ذلك فإن الحكومة البريطانية سوف تفعله، خصوصا وهي تدعي بحق قانوني عليها، باعتبار أن الكابتن الإنكليزي “كوك” هو أول من وصل إلى هذه الجُزُر واكتشفها”.

ويورد “ستانلي كارنوف” بعد هذه الواقعة تعليقا كتبه المفكر والمؤرخ “جورج كينان” بعد ستين سنة قال فيه: “إنه منذ ذلك اليوم أصبحت تعبيرات مثل “واجب شرف”، و”مهمة مقدسة”، و”حتمية ضرورية” تعبيرات شائعة تفصل وتطرز كساءً لمطالب القوة الأميركية!

وبحكم “واجبات الشرف” و”المهام المقدسة” و”الحتميات الضرورية” انطلق الزحف الأميركي في المحيط الهادئ نحو الشواطئ البعيدة يتقدم وينتشر.

يوم الثلاثاء من شهر يناير 1897 دخلت مجموعة بحرية من الأسطول الأميركي إلى ميناء “هونولولو” (كان الكومودور ستيفنس هو قائد مجموعة الاحتلال).

ويوم الخميس 30 أبريل 1898 جاء الدور على الفلبين فتقدمت قطع من الأسطول الأميركي إلى خليج “كوريجيدور”، ثم نزل بحارة الكومودور “جورج ديوي” إلى خليج العاصمة مانيلا (بداعي إنقاذها من أزمة داخلية).

وبعد أسابيع تذكر ضباط الأسطول الأميركي أنهم في لهفتهم على عملية غزو الفلبين، نسوا محطة مهمة وسط المحيط هي جزيرة “غوام”، وكذلك قصدت إليها مدمرة أميركية اسمها “شارلستون” يقودها الكابتن “هنري غلاس”، الذي تلقى تعليماته في ظرف مقفول يفتحه عندما يرى الجزيرة أمامه من بعيد، وحين فعل، قرأ أمرا من قيادته يقول له:

“نحن لا نعرف شيئا عن مساحة “غوام” ولذلك عليك قبل مهاجمتها أن تدور حول الجزيرة لتقيس اتساعها، وتستنتج حجم القوات التي يمكن أن يكون الأسبان تركوها هناك لحمايتها بعد أن تسلموها من الكابتن “ماجلان” الذي اكتشفها”.

لكن الكابتن “غلاس” قرر اختصار الإجراءات واقتحام ميناء جزيرة “غوام” الرئيسي “سان لويس دابرا”، واقترب فعلا من الميناء ثم راح يطلق أكبر مدافعه دون رد عليه، وواصل تقدمه على مهل حتى لمح بحارته قاربا يتوجه نحوهم قادما من الميناء يرفرف عليه علم أسباني، وبعد نصف ساعة كان القارب وضابطه بحذاء “المدمرة شارلستون”، يطلب إذنا بالصعود إلى ظهرها لمقابلة قائدها، ومَثل الضابط الأسباني أمام الكابتن “غلاس” يقول: “إنه يجىء إليه معتذرا لأن الميناء لم يستطع أن يرد تحية مدمرته لعدم وجود ذخيرة لمدافعها” وسأله الكابتن “غلاس” مندهشا: “أية تحية؟”، وأجاب الأسباني: “تلك الطلقات التي أعلنتم بها وصولكم عندنا”! ورد الكابتن الأميركي بِحِدَّة: “لم تكن طلقاتنا تحية ودية، وإنما إجراءً هجوميا، فنحن في حالة حرب معكم!”، ثم استطرد “لكننا الآن نعرف أنكم بلا ذخيرة، وعليه فليس أمامكم غير تسليم الميناء”، ثم أضاف موجها كلامه للضابط الأسباني الذي انعقد لسانه من الدهشة “عليك الآن أن تذهب وأن تعود بالحاكم العام للجزيرة لكى يوقع معنا عقد تسليم وتَسَلُّم!”.

كان الرئيس “ويليام ماكينلي” الذي بدأت أثناء رئاسته أولى محاولات التوسع والانتشار الإمبراطوري الأميركي شخصية غريبة، (ومن المدهش أنها تحمل وجوه شبه مع الرئيس الأميركي الحالي “جورج بوش” فقد كان رجل أعمال وسياسيا لا يملك التجربة الناضجة ولا الخلفية الثقافية التي يعتمد عليها في سياسته وقراره، ولهذا كان جل اعتماده على مساعديه وعلى جماعات الضغط من أصحاب المصالح، وقد رُويت عنه في ما يحكيه “ستانلي كارنوف” في كتابه عن الإمبراطورية الأميركية (في آسيا) نكتة شاعت تقول:

“سؤال كيف يتشابه عقل الرئيس “ماكينلي” مع سريره”؟

ورد السؤال:

“كلاهما لابد أن يرتبه له أحد قبل أن يستعمله!”.

ثم يورد “ستانلي كارنوف” في كتابه (صفحة 128) مشاهد تبدو كأنها تجري اليوم (سنة 2003) في البيت الأبيض وكلاما يصح أن يقوله الساكن الحالي لهذا البيت الأبيض (الذي تتولى مستشارته للأمن القومي السيدة “كونداليزا رايس” مهمة ترتيب عقله كل يوم قبل أن يستعمله، تاركة ترتيب سريره لغيرها!). 
ويكتب “كارنوف”:

“كانت المناقشات في أميركا محتدمة حول ما ينبغي عمله مع البلدان التي احتلتها الأساطيل الأميركية في الباسيفيك، وكانت فكرة “الإمبراطورية” تجربة مستجدة على الولايات المتحدة، وكان على الرئيس “ماكينلي” أن يفصل في الأمر بقرار”. 
وفي سبتمبر 1898 استقبل الرئيس وفدا من قساوسة جمعية الكنائس التبشيرية، الذين فوجئوا به بعد أن انتهت جلسته معه يقول لهم:

“عودوا إلى مقاعدكم أيها السادة لأني أريد أن أقص عليكم نبأ وحي سماوي ألهمني (Inspiration of divine guidance).

أريد أن أقول لكم إنني منذ أيام لم أنم الليل بسبب التفكير في ما عسى أن نصنعه بتلك الجزر البعيدة (يقصد الفلبين بالذات) ولم تكن لدي أدنى فكرة عما يصح عمله، ورُحت أذرع غرفة نومي ذهابا وجيئة أدعو الله أن يلهمني الصواب، ثم وجدت اليقين يحل في قلبي والضوء يسطع على طريقي.

إن هذه الجزر جاءتنا من السماء، فنحن لم نطلبها ولكنها وصلت إلى أيدينا مِنة من خالقنا ولا يصح أن نردها، وحتى إذا حاولنا ردها فلن نعرف لمن؟ ولا كيف؟

وقد بدا لي أولا أنه من زيادة الجُبْن وقلة الشرف والتخلي عن الواجب أن نعيدها إلى أسبانيا (المالك الأصلي). ومن ناحية ثانية وجدت من سوء التصرف والتبديد أن نعهد بها إلى قوى أوروبية متنافسة على المستعمرات في آسيا مثل فرنسا أو ألمانيا (التي كان قيصرها “ويلهلم” الملهوف على أي مستعمرة يستطيع أن يمسك بها يريد إرسال أمير ألماني لتتويجه على عرش جديد في الفلبين!). ومن ناحية ثالثة أحسست أن من غير الملائم أن نترك هذه الجزر لحماقة وجهل سكان محليين لا يصلحون لتولي المسؤولية.

وكذلك فإن الخيارات المفتوحة أمامنا تركزت في حل واحد هو في الواقع لمصلحة الفلبين قبل أي طرف آخر، وهذا الحل هو ضم الجزر إلى أملاكنا، بحيث نستطيع تعليم سكانها ورفع مستواهم وترقية عقائدهم المسيحية ليكونوا حيث تريد لهم مشيئة الرب، إخوة لنا فدتهم تضحية المسيح كما فدتنا!”.

ودارت مناقشات واسعة في الكونغرس حول “الأملاك الأميركية” وراء البحار، وهل هي “إمبراطورية” وإذا كانت “إمبراطورية” فهل يليق ذلك بمجتمع المهاجرين الذين اختاروا الحرية في العالم الجديد؟ وإذا لم تكن الممتلكات الجديدة “إمبراطورية”، فكيف يمكن توصيف وضعها الراهن تحت العلم الأميركي؟

وتصادف وقت احتدام المناقشات في الكونغرس أن الشاعر البريطاني “رديارد كيبلنغ” (وهو صاحب المقولة المشهورة “بأن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان”) كان يزور أميركا أول مرة ولعله أراد تشجيع معسكر أعضاء الكونغرس الذين “يفضلونها إمبراطورية”، وكذلك فإنه نشر قصيدة في مجلة ذات نفوذ تلك الأيام قائلا للأميركيين:

“لا تنزعجوا من تحمل مسؤولية هؤلاء الذين وقعت أقدارهم في أيديكم. سوف تجدون أنهم مخلوقات متعبة: نصف شياطين ونصف أطفال. افهموا أن أميركا لم يعد في مقدورها أن تهرب من رجولتها. تعالوا كي تمارسوا هذه الرجولة الآن، حتى وإن كانت نتيجتها جحود فضلكم. اقبلوا متذرعين بالشجاعة وبالحكمة وتعلموا من تجربة من سبقوكم”.

وربما أن واحدة من أشهر المداخلات أثناء مناقشات الكونغرس (سنة 1898) في مسألة الإمبراطورية وردت في خطاب السيناتور “ألبرت بيفردج” عضو المجلس عن ولاية “فرجينيا”، وورد فيها قوله في سياق خطاب عنوانه “زحف العلم” The March of the Flag, ما نصه:

“عليكم أن تتذكروا اليوم ما فعله آباؤنا علينا أن ننصب خيمة الحرية أبعد في الغرب، وأبعد في الجنوب. إن المسألة ليست مسألة أميركا، ولكنها مسألة زمن يدعونا إلى الزحف تحت العلم، حتى ننشر الحرية ونحمل البركة إلى الجميع. علينا أن نقول لأعداء التوسع الأميركي، إن الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، وأما الشعوب التي لا تستطيع فإن واجبنا المقدس أمام الله يدعونا لقيادتها إلى النموذج الأميركي في الحياة، لأنه نموذج الحق مع الشرف. فنحن لا نستطيع أن نتهرب من مسؤولية وضعتها علينا العناية الإلهية لإنقاذ الحرية والحضارة، ولذلك فإن العلم الأميركي يجب أن يكون رمزا لكل الجنس البشري!”.

وانتهت مداولات الكونغرس بما ملخصه أنها “الإمبراطورية” بالواقع، حتى وإن لم تكن تلك تسميتها باللفظ، وراحت الولايات المتحدة الأميركية تمارس مهام الإمبراطورية بإخضاع كل مقاومة. وينقل “ستانلي كارنوف” (في صفحة 188) فقرة من تقرير كتبه أحد أعضاء الكونغرس بعد زيارة قام بها إلى الفلبين ما نصه:

“إن القوات الأميركية اكتسحت كل أرض ظهرت عليها حركة مقاومة، ولم تترك هناك فلبينيا واحدا إلا قتلته. وكذلك لم يعد في هذا البلد رافضون للوجود الأميركي لأنه لم يتبق منهم أحد”. ثم أضاف عضو مجلس الشيوخ طبق ما نقل عنه صحافي رافقه في رحلته ما نصه: “إن الجنود الأميركيين قتلوا كل رجل وكل امرأة وكل طفل وكل سجين أو أسير وكل مشتبه فيه ابتداءً من سن العاشرة، واعتقادهم أن الفلبيني ليس أفضل كثيرا من كلبه وخصوصا أن الأوامر الصادرة إليهم من قائدهم الجنرال “فرانكلين” قالت لهم “لا أريد أسرى ولا أريد سجلات مكتوبة!”.

وفي أجواء ذلك التناقض بين ادعاء الحرية وواقع الإمبراطورية قام رجل وُصف بأنه فوضوي اسمه “ليون شولوغوني” باغتيال الرئيس “ويليام ماكينلي” يوم 14 سبتمبر سنة 1901 وكذلك انتهت حياة أول بناة الإمبراطورية الأميركية، وأصبح نائبه “تيودور روزفلت” رئيسا للولايات المتحدة، وكان “روزفلت” أكثر تشددا من رئيسه في الدعوة للتوسع والانتشار، ومع ذلك فإن “روزفلت” فور توليه الرئاسة، رأى ضرورة الانتظار أمام شواطئ آسيا، لأن الزحف الأميركي هناك بلغ مداه الممكن في الوقت الراهن على الأقل!

يستدعي الالتفات في سياق هذا الفصل من كتاب “ستانلي كارنوف” أنه بعد احتلال جزر المحيط الهادئ من هاواي إلى الفلبين قرب شواطئ آسيا أن مناقشات محتدمة جرت في واشنطن حول الخطوة التالية، فقد ارتفعت نداءات تطالب بأن الدور قد حان على إندونيسيا، لكن الرئيس “تيودور روزفلت” كان له رأي آخر يدعو إلى التروي تأسيسا على أسباب عرضها:

أولها: أن جزر “هاواي” “التي قُمنا باحتلالها” كانت أرضا خالية فيها سكان ولم تكن فيها دولة ولا عقيدة راسخة ومع أن “الفلبين” كانت تابعة لأسبانيا فقد ظهرت فيها حركة استقلال قوية تعادي الدولة المحتلة وتقاوم نفوذها، يضاف إلى ذلك أن “الفلبين” كانت مسيحية كاثوليكية بحكم النشاط التبشيري الكثيف للملوك الأسبان!

ثانيها: أن إندونيسيا ليست جزيرة واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، وإنما آلاف الجزر، واحتلالها جميعا عبء ثقيل لا نحتاج إلى حمله، واحتلال بعضها دون البعض الآخر “يعرض مواصلاتنا الداخلية لمخاطر تنتج عنها خسائر في الأرواح لا نريدها!”.

ثالثها: أن إندونيسيا بلد مسلم ودخولها يضع التوسع الأميركي في صراع مع دين “لا نعرف عنه ما فيه الكفاية”، فنحن نعرف المسيحية بمذاهبها المتعددة “لكننا بالنسبة للإسلام سوف نواجه خصما لا نفهمه”.

رابعها: أن إندونيسيا تجعلنا على قرب شديد من اليابان ومن الصين، وهذه بلدان كُبرى يحتاج التعامل معها إلى استعدادات خاصة، ويستحيل التصرف معها بالمستوى الذي جربناه في “هاواي” و”الفلبين” و”غوام”.

وكذلك ظلت ضرورات التعامل مع اليابان والصين إشكالية معلقة من وقتها وطول القرن العشرين حتى حسمها الجنرال “دوغلاس ماك آرثر” القائد العام لقوات الحلفاء في آسيا بنظرية تُنسب إليه حتى هذه اللحظة مؤداها، “أن الولايات المتحدة في آسيا تستطيع فقط أن تكون دولة بحر ولا يصح لها أن تنزل على البر الآسيوي وتخوض فيه إلى العمق، لأن ذلك يفرض عليها أعباءً لا تقدر عليها وتضحيات لا داعي لها، لأن العمق الآسيوي بلا نهاية بالبشر والموارد وبالعقائد والأفكار. وبناءً على ذلك فإن ما تستطيعه الولايات المتحدة وتقدر عليه بلا تكاليف تُذكر أو تضحيات لا تحتمل هو التمركز على الجزر المقابلة لشواطئ آسيا، والتدخل عند اللزوم بالأساطيل أو بالطائرات من قواعد تلك الجزر أو من حاملات الطائرات”.

وجاءت حرب فيتنام لتصدق على نظرية “ماك آرثر” وتؤكدها، ذلك أنه ما إن نزلت الجيوش الأميركية ودخلت في عمق فيتنام حتى أصبحت فريسة مكشوفة تحت رحمة قوات “الفيت كونغ” وغاراتها المتواصلة على مؤخرة القوات وأجنابها، إلى أن اضطر الرئيس “نيكسون” للانسحاب من فيتنام بلا كبرياء أو كرامة!.

وعلى أية حال فقد كان الرئيس الأميركي الجديد تلك الأيام “تيودور روزفلت” مشغولا بالفعل في اتجاه إمبراطوري آخر ركز عليه اهتمامه حتى وهو نائب للرئيس “ماكينلي”، ذلك أنه بينما كان الرئيس يركز بصره على المحيط الهادئ إلى شواطئ آسيا، كان نائبه “تيودور روزفلت” يمد بصره إلى الناحية الأخرى من المحيط الأطلنطي نحو شواطئ أوروبا.

وبالفعل كان “روزفلت” هو القوة الدافعة وراء قرار اتخذه الكونغرس الأميركي بمناصرة ثورة استقلال كوبا عن أسبانيا، واعتبار هذه الثورة “مهمة مقدسة” و”ضرورة حتمية” لا تستطيع الولايات المتحدة أن تشيح البصر عنها أو تغلق آذانها عن استغاثة ثُوارها ضد طغيان استعمار أسبانيا.

وكان “تيودور روزفلت” صاحب قول مشهور ملخصه “إن الدولة المقتدرة هي التي تستطيع تحويل الطوارئ إلى ضرورات”، وكذلك تحول شعار مساندة الحرية في كوبا إلى قرار “حتمي” بإعلان الحرب على أسبانيا (الدولة المستعمرة لكوبا).

وتمكن الأسطول الأميركي من إنزال قواته إلى الجزيرة تحارب جنبا إلى جنب مع الثوار ضد جيش الاحتلال الأسباني في ظل إعلان بأن قوات الرئيس الأميركي “تيودور روزفلت” سوف تخرج من كوبا في نفس اللحظة التي تخرج منها قوات الملكة الأسبانية “ماريا كريستينا”.

وانتصرت الثورة الكوبية ووقَّعَت أسبانيا معاهدة اعتراف باستقلال كوبا وسحبت بالفعل قواتها من هناك لكن القوات الأميركية المُناصرة للحرية ! بقيت، ودعوى “روزفلت” “أن بقاء القوات ضروري لدعم الاستقرار، لأن الفوران المصاحب للاستقلال يمكن أن يزعزع الاستقلال الكوبي!”.

ومضى “تيودور روزفلت” بعدها يخلع آخر المواقع الباقية لأسبانيا وللبرتغال من أميركا اللاتينية (في بورتوريكو وبنما وغيرهما من المواقع في أميركا الوسطى)، معتبرا أن جهود الإمبراطوريتين لاكتشاف أميركا (شمالا وجنوبا) بعثة حضارية لكن بقاء الإمبراطوريتين بعد زمانهما تطفل استعماري وهمجية!

وكذلك تقدمت الإمبراطورية الجديدة تأخذ الإمبراطوريات القديمة جاهزة بأصلها وفصلها على طريقة الكابتن “مورغان” حين يغير على سفن القراصنة المثقلة بغنائمها، (“الجمل بما حمل” حسب التعبير العربي الشائع!).

إمبراطوريات من أنواع مختلفة

بعيدا عن كتاب “ستانلي كارنوف” فإن نشأة وقيام الإمبراطورية الأميركية قصة تستحق التأمل والدرس، لكن قبل الدخول بعيدا في التفاصيل، يصح الالتفات إلى أن الإمبراطورية حلم يتجلى عادة في استعداد يتعرف على طموحاته، ويحس بضغطها عليه، ثم يجد توجهاته وخطاه تتدافع تلقائيا واحدة بعد واحدة، وإذا القوة المعنية ماشية بالفعل على الطريق إلى أحلام كانت في وعيها الباطن تتمناها، وقد عبرت عنها دون قصد أحيانا وبغير إلحاح مرات، على أنها في النهاية على الطريق إليها مكتشفة أن ذلك كان من البداية في قلبها، أي إن حركة الإمبراطورية عند التطبيق طموح تعززه وسائل تتنامى واندفاع يوجه نفسه ويعدل مساره بإصرار وباستمرار نحو مبتغى مطلوب.

وعندما سُئل الرئيس الأميركي الذي تصادف وجوده في البيت الأبيض تلك السنوات الخطيرة من بدايات القرن العشرين وهو الرئيس “تيودور روزفلت” عما إذا كانت سياسة الولايات المتحدة هي بناء إمبراطورية، نفى الرجل وأنكر، وربما لم يكن في قصده أن يكذب حين قال: “إن البلد الذي قام على فضيلة الحرية، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الإمبراطورية!”.

ذلك أن الطموح لا يعتبر مطالبه تزيدا، بل يعتبرها تكملة تلقائية لطبائع الأشياء.

وبصرف النظر عن الاعتراف بالخطيئة أو الادعاء بالبراءة، فإن كلمة الإمبراطورية ترددت صوتا عاليا وصدى مدويا في الكونغرس الأميركي، وفي الإعلام الأميركي (خصوصا صحف راندولف هيرست).

وفي تلك الفترة من أوائل القرن العشرين ظهرت تيارات فاعلة في الولايات المتحدة تتأمل وتدرس أحوال الإمبراطوريات الأوروبية المتصارعة، وتفكر فعلا في إرثها، وفي التأمل والدرس عنصران محددان:

1. عنصر عملي (اقتصادي وتنفيذي) هو نفس منطق الكابتن “مورغان” قرصان القراصنة الذي ينتظر العائدين بأكداس الغنائم بعد غاراتهم على السفن واحدة واحدة، ثم يستولي على ما فيها كله بضربة واحدة سريعة في حركتها ضامنة لغنائمها مقللة من خسائرها.

2. وعنصر ثقافي (تجريبي وطبيعي) لأن المهاجرين الذين أنشأوا الولايات المتحدة الأميركية لم يعرفوا في بداية التجربة عدوا يتمثل أمامهم على هيئة دولة بالذات تهددهم، وإنما عرفوا عدوا “بالعموم” و”بالنوع” يجسد الخطر أمامهم على هيئة جنس بشري سكن القارة قبلهم هو “الهنود الحُمر”، وفي مواجهتهم لهذا الخطر، فإنهم واجهوه على المشاع، وتعاملوا معه بعموم (حتى وإن حاولوا خلال المواجهة تفريق القبائل واستغلال ضعف الزعماء واللعب على تناقضاتهم القبلية والشخصية) أي إنهم عرفوا التهديد الكلي وتعاملوا معه، ولم يعرفوا التهديد الجزئي ولم يشغلوا أنفسهم كثيرا به.

وعندما حان الوقت فإن الإمبراطورية الأميركية لم تتصرف إزاء مواقع الطلب والطموح إزاء دولة بعد أخرى أو موقع بعد موقع، وإنما كانت الإستراتيجية الأميركية هي التصرف إزاء المجموع كله، أي مع الإمبراطوريات المرغوب في إرثها كاملة شاملة (الوطن الأصلي والأقاليم والمستعمرات) مرة واحدة.

يسترعي التفكير أن المشروع الأميركي الإمبراطوري تعامل بنفس المنطق مع التيارات والحركات السياسية الواسعة.

وعلى سبيل المثال فإن المشروع الإمبراطوري الأميركي في صراعه مع الشيوعية، لم يتعامل معها دولة بعد دولة وإنما تعامل معها بوصفها “كتلة”، وكانت تحركات واشنطن إزاء الأجزاء (الدول) في هذه الكتلة أشبه ب”جس المواقع” و”اختبار الصلابة” و”البحث عن فجوة” في هذه اللحظة أو تلك من عصر الحرب الباردة، وذلك جرى مع بولندا ومع المجر ومع ألمانيا الشرقية، حيث كانت هذه المحاولات جميعا تحركات آنية تبحث عن مداخل، وأما استراتيجية الصراع فلم تتوقف طويلا أمام الأقاليم أو الدول، وإنما كان شاغلها: “الكل” أي “الكتل!"

والملاحظ أن نفس الشيء جرى في حالة المواجهة مع تيار القومية العربية، ففي العالم العربي كانت الأقاليم والدول مجرد بحث عن مداخل أو فجوات للاختراق والتطويق، وأما الاستراتيجية الأساسية فقد كان هدفها التيار في مجمله، والحركة في مجموعها. وعندما وقع الدخول الأميركي الكبير في مصر منتصف السبعينيات فإن الإمبراطورية الأميركية كانت على وعي بأن مصر في حد ذاتها ليست الهدف، وإنما الباب الأوسع إلى الدائرة العربية بكاملها (من الخليج إلى المحيط!).

والمدهش أن هذا المنطق هو ما جرت ممارسته في السلع كذلك وليس في الأقاليم فقط، وفي الموارد بعموم وليس في الدول بخصوص. فالولايات المتحدة لم تتعامل في قضية البترول مع امتياز واحد أو منطقة واحدة، وإنما تعاملت مع البترول كسوق عالمية شاملة لكل شيء: من البحث إلى الإنتاج إلى النقل إلى التصنيع إلى التوزيع. بمعنى أن الولايات المتحدة لم تتعامل مع السعودية أو إيران أو فنزويلا كمواقع متفرقة، وإنما تعاملت مع البترول حيث كان، وذلك تغيير أساسي في الأسلوب الإمبراطوري، وبمقتضاه فإن الموارد بعد الأفكار وبعد الأقاليم أصبحت هي الأخرى كلية شاملة وجامعة.

وفي تلك الفترة المثيرة من أوائل القرن العشرين وقبل الحرب العالمية الأولى، تبدت الصورة الإمبراطورية أمام أنظار المعنيين بها في الولايات المتحدة محددة وجلية ذلك أنه بعد زوال إمبراطورية أسبانيا والبرتغال وجدت الولايات المتحدة أمامها ثلاثة أنواع إمبراطورية:

- النوع الأول إمبراطوريات قديمة متوسعة ومنتشرة، وقد بقيت منها اثنتان هما إمبراطوريتا بريطانيا وفرنسا. وكان باديا أن بريطانيا وفرنسا هما ما يُحسب له حساب في ما بقي من إمبراطوريات أوروبية (بعد زوال أسبانيا والبرتغال).

- هناك نوع ثانٍ من الإمبراطوريات الباقية فيه ثلاث تسودها حالة قلق، سببه ما يصاحب تقدم العمر وحلول المرض، وهذه الإمبراطوريات الثلاث هي: الإمبراطورية الروسية (أسرة رومانوف) والإمبراطورية النمساوية الهنغارية (أسرة هابسبورغ) وإمبراطورية الخلافة الإسلامية (آل عثمان). وهذه الإمبراطوريات الثلاث تشترك في خصائص متشابهة:

الخاصية الأولى أنها جميعا تحت سيادة أسر مالكة شاخت ووهنت عزيمتها وترهلت إرادتها، وأسوأ من ذلك فقد تحلل أمراؤها الورثة بترف الحياة ونعومة العيش حتى تدنت الأحلام الكُبرى إلى دسائس قصور وحكايات غرام ومطاردات لذة.

وكان آخر قياصرة أسرة “رومانوف” (ألكسندر) ألعوبة في يد زوجته، في حين كانت القيصرة ذاتها لعبة في يد راهب أفاق (راسبوتين).

وكان يُقال إن أسرة هابسبورغ وسعت رقعة إمبراطوريتها في غرف النوم أكثر مما وسعت رقعتها في ميادين القتال، لأن أمراءها المرفهين كانوا يتزوجون من أميرات الممالك الأوروبية الصغيرة، ويتحول إرث الأميرات إلى ولايات وأقاليم تنضم إلى الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وانتهت إمبراطورية غُرف النوم بمأساة، لأن ولي عهدها (رودلف) قتل نفسه منتحرا بسبب جميلة من عامة الناس لم يستطع أن يتزوجها!

ولم تكن أسرة آل عثمان أفضل حالا، فقد كانت قصور السلاطين الأواخر للإمبراطورية مليئة بقصص الجواري والأغوات الذين يتلاعبون بالخلفاء وزوجاتهم وبالأمراء والقواد والوزراء.

والخاصية الثانية في هذه الإمبراطوريات الثلاث أنها جميعا (على خلاف الحال في إمبراطوريات بريطانيا وفرنسا وحتى أسبانيا والبرتغال وهولندا) ليست إمبراطوريات منتشرة، وإنما إمبراطوريات دارت حول نفسها وتمددت من داخل مواقعها دوائر تتسع وتزداد اتساعا كلما وجدت فرصة. فالإمبراطورية الروسية ضمت ما حولها في كل الاتجاهات، وكذلك فعلت الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وكذلك أيضا فعلت الإمبراطورية العثمانية. وكان ذلك الوضع يصيب هذا النوع من الإمبراطوريات بعوارض تمس القلب مباشرة.

وعلى سبيل المثال فإن الإمبراطورية البريطانية كانت تستطيع أن تواجه تمردا في الهند، أو ثورة في مصر، أو عصيانا في جنوب أفريقيا، لكن هذه المشاكل في الإمبراطورية المتوسعة المنتشرة تظل هناك في مكانها بعيدة عن مركز إمبراطوري أعلى يدير أزماته عن بعد، ويتعامل مع المشاكل دون عبء مباشر يضغط على قلبه وأعصابه.

وعكس ذلك تماما بالنسبة لنوع الإمبراطوريات الملتفة حول نفسها، ففيها وهي متصلة متمددة من حول المركز يكون أي تمرد أو ثورة أو عصيان حدثا واقعا في قلب الوطن الأصلي ذاته، مؤثرا على وحدته وبالتالي ضاغطا على أعصاب صانع القرار فيه، لأن أي اضطراب في الأمور يصل سريعا إلى علم الكافة محرضا، وناقلا للعدوى!

- وكان هناك نوع ثالث من الإمبراطورية أقرب ما يكون إلى مشروعات طموحة تتشكل، لأنها هذه اللحظة قوى طالعة محرومة وجائعة تفتحت شهيتها بأوسع من وسائلها، وانطلقت أحلامها وراء البحار إلى بعيد. وكان هذا النوع في تلك الفترة الهامة من بدايات القرن العشرين يضم ثلاث إمبراطوريات أو مشروعات إمبراطورية:

- مشروع ألماني تمثله مطامع القيصر “ويلهلم الثاني” الذي عاد يحلم من جديد بالرايخ الألماني (أي وحدة الأمة الألمانية متمثلة في الناطقين بلغتها والمنتمين إلى ثقافتها) وكان حلم “ويلهلم” يستلهم الانتصار الهائل الذي أحرزه مستشار ألمانيا الحديدي “بسمارك” عندما حقق وحدة ألمانيا وقاد انتصارها على فرنسا في حرب السبعين، ثم دخل إلى قلب باريس يسقط عرش نابليون الثالث! وفي أوائل القرن العشرين بدا القيصر الألماني بتشجيع مستشاره “فون بيلو” مندفعا بأقصى قوة في بناء أسطول بحري ينافس به الأسطول البريطاني، عارفا أن السيادة على البحار هي عماد الإمبراطورية، وكان تركيز “ويلهلم” الظاهر على تجهيز أسطول هائل من الغواصات، وبذلك فإن طموحه بدا واضحا، ومتجها إلى صدام مع بريطانيا.

- ومشروع إمبراطوري إيطالي، ظاهره أن إيطاليا التي حققت وحدتها عادت تحلم بالزمن الروماني، وتجيل النظر في البحر الأبيض، وتسترجع نداء قيصر الشهير ب”أنه بحرنا”، وكانت إيطاليا بالفعل قد عبرت واحتلت ليبيا، متوازية في ذلك مع خط السباق الإمبراطوري الأوروبي جنوب ذلك البحر، وذلك سباق جرت فيه بريطانيا إلى مصر وفرنسا إلى تونس والجزائر والمغرب وفي الفجوة بين الاثنتين هرعت إيطاليا إلى الشاطئ الأفريقي وراحت تدور حول شرق القارة السوداء تبحث عن شواطئ جديدة تنزل عليها، وقد عثرت بالفعل على موقع قدم على القرن الأفريقي وحوله.

- وأخيرا مشروع إمبراطوري ياباني، ومع أنه مشروع غير أوروبي، فقد شوهد من بعيد ملهوفا على التوسع، وعلى القضم والبلع، خصوصا بعد أن تمكن في معركة بورت آرثر (سنة 1905) من هزيمة الأسطول الروسي في المحيط الهادئ وتحطيمه بالكامل. وبدا أن الصين مكشوفة أمام يابان جائعة أقبلت بهمة على عملية تصنيع هائلة تحتاج إلى مواد خام وفيرة وأسواق مستهلكة واسعة.

كان أنصار المشروع الإمبراطوري الأميركي يتابعون مقدمات الحرب العالمية الأولى، وأولهم البيت الأبيض وفيه ذلك الوقت الرئيس “وودرو ويلسون” وقد رأوا جميعا نُذُر العاصفة، وتقديرهم أنها آتية لا محالة، وهي على الأرجح سوف تحمل للولايات المتحدة الأميركية فرصة مفتوحة لسباق الإمبراطورية، وعندما نشبت الحرب كان أول تصريح للرئيس الأميركي “وودرو ويلسون” بما نصه: “إن الولايات المتحدة محايدة في هذه الحرب وحيادها بالفكر وبالفعل معاً!”.

ولم يكن ذلك صحيحا لأن الولايات المتحدة كانت شريكا في تلك الحرب من أول يوم، وحسابها للنتائج أن معاركها سوف تحسم مستقبل القرن العشرين كله (أو ما بقي منه، أي 86% من عمره)، وذلك تقدير تترتب عليه نتيجة مؤداها أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تترك القرن العشرين يتدفق في مجاريه بعيدا عنها، وفي الواقع فإن نصف ما قاله الرئيس “ويلسون” لم يكن صحيحا، فبلاده لم تكن محايدة بالفكر بل منحازة من اليوم الأول، وأما في الفعل فإن الولايات المتحدة أرجأت قرارها كما هو متوقع حتى تمر عين العاصفة بعيدا عنها!

وتكشف الوثائق الأميركية (وضمنها مجموعة أوراق الرئيس “وودرو ويلسون” نفسه) أن واشنطن رتبت انحيازها بالفكر في الحرب على درجات:

1. الدرجة الأولى أنها مطالبة بالحيلولة دون انتصار ألمانيا، لأن المشروع الإمبراطوري الألماني يبدو أقرب إلى النجاح قبل غيره، لأن الدولة القائمة به في أوج شبابها، وإذا انتصرت في الحرب فإنها سوف تدخل إلى الساحة بعنفوان شديد لم تعد تتمتع به إمبراطوريات أوروبا الكبرى (بريطانيا وفرنسا).

وكذلك فإن المشروع الألماني يجري في قلب أوروبا ويستند إلى الدولة التي تمثل هذا القلب، بعد أن حققت وحدتها وبدأت في بناء نهضة صناعية وعسكرية لا بد أن يُحسب حسابها.

(وكان المشروع الأميركي يزيح المشروعات المتبقية الأخرى جانبا في هذه اللحظة: المشروع الياباني بعيد في طرف آسيا والمشروع الإيطالي ولو أنه في قلب أوروبا رخو وطري).

وبالحساب البسيط فإن ذلك كان يعني مساعدة بريطانيا وفرنسا بوسائل غير مباشرة لعلها تغني عن تدخل سريع تستدعيه التطورات إذا أحرزت ألمانيا انتصارات واضحة أو شبه محققة أو لعلها تستنزف من قوة ألمانيا كل ما يمكن استنزافه قبل الدخول الأميركي.

2. وفي الدرجة الثانية بحسابات الإمبراطورية فإن الولايات المتحدة الأميركية توقعت ولم يكن ما توقعته خطأ أن الإمبراطوريات القديمة الملتفة حول نفسها الهنغارية النمساوية (آل هابسبورغ)، والروسية (آل رومانوف)، والخلافة الإسلامية (آل عثمان) سوف ينفرط عقدها في هذا الصراع العالمي الهائل، لأن تلك الإمبراطوريات تيبَّسَت عضلاتها بالشيخوخة وانعزلت عن حقائق العالم المتغيرة بأجواء قصورها التي تحولت إلى معارض للأثاث والتحف تسكنها أشباح من الماضي.

ولم تكن الولايات المتحدة تتوقع إرثا من تلك الإمبراطوريات الملتفة حول نفسها، والمنطق أن نهاية هذا النوع من الإمبراطوريات تجيء بالسقوط والانهيار حطاما وركاما يتهاوى حيث هو، وهناك يقع إرثه واقتسامه (وذلك على عكس الإمبراطوريات المتسعة المنتشرة، فتلك يتناثر إرثها وراء البحار والمحيطات، بما يجعله في مطال كل من يملك السيطرة على المسافات).

وعندما جاءت نهاية الإمبراطوريات الثلاث الملتفة حول نفسها، فإن الولايات المتحدة وجدت ما توقعته، ومع ذلك قابلتها مفاجآت:

توقعت ولم تفاجأ بانفراط الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، التي انفك عقدها وتحولت حباته إلى عدد من الدول المستقلة في البلقان وشرق أوروبا (وهنا فإن الولايات المتحدة الأميركية لم ترث إمبراطورية آل هابسبورغ ولم تكن تتوقع إرثها).

وتوقعت الولايات المتحدة لكنها فوجئت عندما وقع تساقط الإمبراطورية الروسية (قياصرة آل رومانوف) فقد رأت النظام القيصري الذي انهزم في ميادين القتال يتهاوى من الداخل أمام ثورة شيوعية أقامت نظاما سوفياتياً راح يمسك بالإمبراطورية من جديد، بدعوى الاتحاد السوفياتي (وهنا أيضا فإن الولايات المتحدة الأميركية لم ترث مُلك القياصرة، وفي الغالب فإنها لم تكن تتوقع إرثها، لكن قيام إمبراطورية ثورية حمراء أزعجها، وعلى أي حال فقد اعتبرت تلك مرحلة من الصراع العالمي لها دور آخر قادم!).

ومع أن السياسة الأميركية توقعت سقوط الخلافة العثمانية، فقد فاجأها أن الإرث وقع غنيمة في يد بريطانيا وفرنسا، بمقتضى اتفاقية “سايكس بيكو” التي وزعت أملاك السلطان المسلم في الشرق الأدنى بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين (بريطانيا وفرنسا). كذلك فإن غنيمة الشرق الأدنى جرى الاتفاق عليها وتوزيعها فعلا ودون تشاور معها لأن الذين حصلوا على إرث الخلافة العثمانية في هذا الشرق الأدنى كانوا هم الذين تواجدت جيوشهم فعلا على أرضه، وبينهم حرب قسمة غنائم كانت في حوزتهم فعلا.

وتظهر الوثائق الأميركية (وفيها أوراق “وودرو ويلسون”) أن الولايات المتحدة راودها عند دخول الحرب حلم أن تنتدب للوصاية على بعض بلدان الشرق الأدنى، وضمنها فلسطين (لكن ذلك الحلم لم يتحقق وقتها وقد تحقق وزيادة بعد فترة صبر لم يطل!).

والحاصل أن السياسة الأميركية فرضت مطلبها الأول في الحرب العالمية الأولى وهو منع انتصار ألماني يضع على الساحة الدولية إمبراطورية جديدة في عنفوان شبابها، قادرة إذا انتصرت على التصدي. لكن بعد تحقيق هذا الهدف الأولي، قدرت السياسة الأميركية أن النتائج ولو أنها غير وافية بمطالبها الإمبراطورية المستقبلية هي أقصى ما تسمح به تلك اللحظة الدولية، وأن عليها انتظار فرصة أخرى مقبلة، خصوصا أن ما بقي أمامها من الإمبراطوريات (بريطانيا وفرنسا) محكوم عليه برغم انتصاره في الحرب العالمية الأولى.

وهنا فإن الولايات المتحدة لم تشارك في عصبة الأمم، وهي شكل النظام الدولي الذي قام في أعقاب تلك الحرب، بل تركت النظام لأصحابه ورجعت تنتظر الفرصة المقبلة من وراء المحيط.

وكذلك فإن قائمة الإمبراطوريات وقع اختزالها في أعقاب الحرب العالمية الأولى من ثمان إلى ثلاث، اثنتان منها إمبراطوريات منتشرة (فرنسا وبريطانيا) (وثالثة غامضة في روسيا، شيوعية سوفياتية لم تظهر ملامحها ولا خططها، وإن كانت عالمية فكرتها تُنبئ مبكرا بأنه سوف يكون لها دور وحسابات وعواقب!).

وأدركت الولايات المتحدة الأميركية أن الإرث الإمبراطوري الأكبر مؤجل إلى موعد ليس بعيدا لكنه على الأرجح موعد لن يطول انتظاره دهرا.

وسمعت المفكر الاستراتيجى العظيم وألمع كُتَّاب القرن العشرين “والتر ليبمان” يروي للرئيس “جمال عبد الناصر” (مارس 1957) لمحة من حوار دار بينه وبين الرئيس “وودرو ويلسون” (سنة 1920)، ووقتها كان “ليبمان” عقلا مفكرا بجوار رئيس الولايات المتحدة (زمن الحرب العالمية الأولى)، ووقتها كان موضوع الحوار بين المفكر والرئيس الأميركي، قرار “ويلسون” بترك أوروبا وفيها عصبة الأمم، والعودة مرة أخرى إلى “فلسفة العزلة الأميركية” في انتظار الظروف. وكان بين ما قاله “ويلسون” أثناء ذلك الحوار “أن عصبة الأمم لن تنجح لأن الإمبراطوريات القديمة سوف تمارس فيها ألعابها المعهودة”، وأضاف “ويلسون” ملاحظة مؤداها “أن هذه الإمبراطوريات العجوزة لا تريد أن تذهب إلى نهايتها بهدوء مثل الأفيال المرهقة بالسنين الطوال”.

وقال “ليبمان” “إنه لا يخالجه شك في أن الإمبراطوريات القديمة على حافة الغروب”. ورد “ويلسون” “بأنه يستطيع أن يرى نهاية عصور إمبراطورية تتهاوى تحت مطارق الزمن لكنه لا يستطيع أن يتصور اختفاء الإمبراطورية البريطانية، فالإنكليز بالذات راكموا خبرة طويلة في مقدرة البقاء، تساعدهم عليها مرونة إزاء تحولات التاريخ شديدة الكفاءة”.

ورد “ليبمان” بما مؤداه: “سيدي الرئيس ليس لنا أن نخشى الإمبراطورية البريطانية، فنحن لدواعٍ كثيرة (فيها وحدة اللغة) لدينا شهادة إرث طبيعي للإمبراطورية البريطانية، حتى وإن ظلت بريطانيا على قيد الحياة.

وطبقا لرواية “ليبمان” لجمال عبد الناصر (وفي حضوري) فإن “ويلسون” أطرق لحظة ثم قال لصديقه: “والتر أظن أنك على حق ولكن متى؟ وفي أية ظروف؟ وبأي ثمن؟!”.

وفي سياق روايته لجمال عبد الناصر، أضاف “والتر ليبمان” (وهو يستعيد سنة 1957 وقائع حوار سنة 1920) مضيفا ربما لتقليل هواجس شاعت في الشرق الأوسط بعد حرب السويس عن مشروع نظام أميركي جديد لحماية المنطقة عُرض على بلدانها يحمل اسم مشروع “أيزنهاور”، وكانت الهواجس العربية انه “نفس المشروب الإمبراطوري القديم، معبأ في زجاجات جديدة” وكذلك قال “ليبمان” لجمال عبد الناصر: “إنه يتصور أن الولايات المتحدة لديها حلم يمكن وصفه بأنه “إمبراطوري” لكن هذا الحلم حين يتحقق سوف يختلف عن مثال الإمبراطوريات القديمة، بمعنى أنه لن يكون فرضا للسيطرة، وإنما دعوة إلى “شراكة” مع التسليم باحتمالات الخلل في عدالة “الشراكة” بين طرف بالغ القوة وشركاء أقل منه قوة، وأحيانا أقل بكثير! لكن تحقيق قدر من العدل يتوقف على إرادة الأقل قوة ودرجة استعداده للمقاومة!”.

ومن المدهش أن أميركا العائدة إلى شواطئها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعد خسائر بشرية في معاركها أقل من خسائر بولندا وأقل من خسائر رومانيا أصرت على أن تقتضي نصيبها من تعويضات المهزومين (إمبراطوريات المجر والنمسا وتركيا، وروسيا وكذلك مشروع الإمبراطورية الألمانية) ذهبا وليس أي شيء آخر.

وكان نصيب أميركا من التعويضات هو الأكبر بدعوى أن دخولها الحرب هو الذي قلب موازينها، وبناءً عليه فمن حقها المطالبة بتطبيق القاعدة الشهيرة في ألعاب القمار، وهي “أن الفائز يأخذ كلهٌ The winner takes all"

وبهذا المنطق بعث الرئيس “هاردنغ” الذي خلف “ويلسون” إلى أوروبا بممثل خاص له “تشارلز داوز” رئيس إدارة الميزانية الفيدرالية لكي يشرف على شحن ذهب التعويضات من ممالك آل هابسبورغ وآل رومانوف وآل عثمان وآل هوهنزلرن، ويرصها صناديق فوق صناديق على البواخر إلى أميركا.

وفي حين أن شركاء أميركا من المنتصرين في الحرب مثل بريطانيا وفرنسا كانوا يأخذون النصيب الأكبر من تعويضاتهم عيناً (مصانع وآلات وسندات) فإن الولايات المتحدة أخذت نصيبها ذهباً، وكانت الإمبراطوريات الأخرى المنتصرة (بريطانيا وفرنسا) على استعداد لأي شيء ترضى به الولايات المتحدة وتترك أوروبا وشأنها وتعود إذا شاءت إلى شاطئ المحيط الآخر محملة بالذهب. (أي إن نظرية الكابتن “مورغان” طرحت نفسها مرة أخرى، على أساس أن المنتصر الذكي لا يشغل باله بالحصول على الأصول الإمبراطورية، وإنما عليه أن يتوجه مباشرة إلى البنوك وينزح ما فيها وينقله إلى حوزته!!).

الفرصة الآن سانحة!

طوال العشرينيات من القرن الماضي كانت الولايات المتحدة الأميركية مشغولة عن حلمها الإمبراطوري بشؤون الداخل، فقد دهمتها عواقب الحرب العالمية الأولى، بما فيها عملية فك التعبئة العسكرية لقلاع الإنتاج الضخمة وإعادتها مرة أخرى إلى صنع السلع المدنية، كما تفاقمت مشاكل التعامل مع المجندين العائدين إلى الوطن الأميركي من خنادق الوحل والدم في أوروبا. وكان هؤلاء الجنود يطمحون الآن إلى “مكافأة السلام” تمنحهم استقرارا وفرص عمل وضمانات وحقوقًا تصوروها في انتظارهم، مضافا إلى ذلك أن بعضا من أفراد هذه القوات عادوا من أوروبا يحملون معهم بذور فكر يساري سَرَى في خنادق القتال يحرض الجنود على مطالب في أوطانهم لابد أن تتناسب مع حجم تضحياتهم.

وفي وقت من الأوقات تلك الفترة قام الجنود العائدون من أوروبا بمحاصرة البيت الأبيض عند نهاية شارع بنسلفانيا (قلب واشنطن) وأعلنوا قوائم مطالبهم على رئيس أميركي اهتزت أعصابه (هوفر) إلى حد استدعاء قوات الجيش العامل، يحمي العاصمة ويفض الإضراب ويفرق جموع العمال “الشيوعيين”، كما وصفتهم بعض الصحف الأميركية. ومن المفارقات أن قائد الجيش العامل الذي نزل يفض الإضراب ويؤدب التظاهرات الجامحة كان الجنرال “دوغلاس ماك آرثر” (الذي أصبح في ما بعد رئيسا لأركان حرب الجيش الأميركي) وكان مساعده في معركة شوارع واشنطن هو الجنرال “دوايت أيزنهاور” (الذي أصبح في ما بعد رئيسا للولايات المتحدة).

وبدت صورة العالم الجديد في أوروبا فوضوية إلى حد أن جريدة “التيمس” نشرت سلسلة مقالات أبرزت مخاوفها من أن تتحول أميركا إلى قارة بلشفية حمراء.

وكانت تلك هي الأجواء التي عاشتها الولايات المتحدة حتى وصلت إلى الأزمة المالية الكبرى سنة 1929، ثم جاء الإنقاذ بانتخاب “فرانكلين روزفلت” (ابن عم لرئيس سبقه هو “تيودور روزفلت”)، ومع الرئاسة الأولى لفرانكلين روزفلت (1932) وبعد سياسة العدل الاجتماعي الجديد <> التي أعلنها وطبقها، وعادت بها الولايات المتحدة إلى حياتها الطبيعية رجع الحلم الإمبراطوري يشغل نخبها السياسية والبيت الأبيض في المقدمة.

ومن واشنطن كان “روزفلت” يتابع ما يجري في أوروبا، ويشغله “صراع الإمبراطوريات”، الذي عاد (كما كان متوقعا) يتجدد مرة أخرى دافعا إلى القارة نُذُر عواصف تتجمع من جديد.

بدأت إيطاليا تشهد صعودا للحركة الفاشية بقيادة “بنيتو موسوليني” الذي وصل إلى السلطة، وشعاره مرة أخرى هو الشعار الروماني القديم في وصف البحر الأبيض المتوسط ب”أنه بحرنا”.

وقامت ألمانيا من وسط ركام الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ونفضت عن نفسها رداء الهوان الذي فرضته عليها معاهدة فرساي التي أملاها المنتصرون على المنهزمين.

وحدث في الوقت نفسه الذي وقع فيه انتخاب “روزفلت” رئيسا للولايات المتحدة أن “أدولف هتلر” كان يصعد نحو القمة في “ميونيخ” قائدا للحزب النازي، ثم يزحف إلى برلين زعيما لألمانيا، ملتزما بمشروع “إحياء الرايخ الثالث” ليعيش “ألف عام” كما كان يقول ثم يصلب “هتلر” عوده ويقف عنيدا مطالبا بحق ألمانيا في المستعمرات، خصوصا تلك التي انتزعها الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) منها في القارة الأفريقية بالذات (وضمنها تنجانيقا التي حصلت عليها بريطانيا وأصبح اسمها تنزانيا في ما بعد وضمنها كذلك الكاميرون التي وقعت في نصيب فرنسا).

وفي الوقت نفسه أيضا كان الحزب العسكري المطالب بالتوسع في اليابان، يمسك بسلطة القرار في طوكيو فارضا نفسه على الإمبراطور “هيروهيتو”.

وتزامن ذلك مع ازدياد سطوة الزعيم السوفياتي “جوزيف ستالين” الذي خلف “لينين” مؤسس الدولة الشيوعية والذي أمسك روسيا بقبضة من حديد، مستغلا موارد بلد هو الآخر بحجم قارة كاملة ومحاولا أن يبني من التخلف القيصري دولة صناعية قادرة على المنافسة والتفوق: اقتصاديا وعسكريا، وفوق ذلك بُشْرى بفردوس من العدل الاجتماعي والمساواة يطرح نفسه على شعوب الأرض!

وكان تقدير “روزفلت”، أن هناك حربا عالمية على الأفق، وتوقعه أنها سوف تدور بالدرجة الأولى بين ألمانيا وإيطاليا من ناحية وبين بريطانيا وفرنسا من الناحية الأخرى، وبدت تلك الصورة المحتملة أمام عينيه شديدة الوضوح.

وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن لدى “روزفلت” تصور واضح لمسلك الاتحاد السوفياتي ولا لمسلك اليابان، ولعل ظنه أن كلا البلدين سوف ينتظر حتى يرى اتجاه العواصف ثم يقرر كيف يستفيد من هبوبها ويستغل التطورات والنتائج.

وطبقا لوثائق البيت الأبيض (مدعومة بمذكرات وزراء “روزفلت” الكبار وفيهم “كوردل هل” وزير الخارجية و”هنري مورغنتاو” وزير المالية والجنرال “جورج مارشال” رئيس أركان الحرب (ووزير الخارجية في ما بعد) فإن التفكير الاستراتيجي للرئيس “فرانكلين روزفلت” بصفة عامة نصف استكشافية وشبه تجريبية كان خطا يجري، وتتحدد أثناء جريانه مقاصد وتوجهات. ومجمل تقديرات “روزفلت” ذلك الوقت:

1. الحرب التي تلوح نُذُرها الآن هي أخيرا الفرصة السانحة للولايات المتحدة لتقفل صفحة الإمبراطوريات القديمة، وتفتح صفحة الإمبراطورية الأميركية، لأنها الأجدر وحدها على “فرض سلام” تقدر عليه مواردها وطاقاتها وهي ليست قادرة على ذلك فقط، وإنما هي تستحقه لأنها قلعة الغِنى في العالم وذروة تقدمه.

2. وفي ما يتعلق بالصراع الأوروبي، وهو دائرة الحرب الأساسية، فإن خطة الولايات المتحدة هذه المرة ليس لها أن تختلف عما كان أثناء الحرب العالمية الأولى، ومؤداها الحيلولة دون انتصار ألمانيا وإيطاليا كذلك، لأن الإمبراطوريات الجديدة تكون أكثر عنفوانا من تلك القديمة، وبالتالي فإن “هتلر” يجب ألا ينتصر، وكذلك “موسوليني”.

3. ومعنى ذلك أن بريطانيا وفرنسا لا بد من أن تخرجا من حمام الدم الأوروبي سالمتين، وفي الوقت نفسه غير قادرتين هذه المرة على الاحتفاظ بإمبراطورياتهما الشاسعة (في آسيا وأفريقيا). ومعنى ذلك أن انتصار الحلفاء الأوروبيين يصح أن يتم داخل حدود لا يتجاوزها، وإلا فإن ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى سوف يتكرر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تتمكن الولايات المتحدة من فرض رأيها ورؤيتها لمصائر العالم فوق سطوة إمبراطورياته القديمة المتهالكة.

4. من الأنسب للولايات المتحدة هذه المرة أيضا، أن تظل بعيدة عن ميادين القتال حتى آخر لحظة، على أنها خلافا لموقف “ويلسون” في الحرب العالمية الأولى لن تعلن حيادها “فكرا” و”فعلا”، وإنما عليها أن تكشف وتظهر انحيازها الفكري ضد النازية، لأن تلك مسألة أخلاقية وأما عمليا فإنها سوف تترك بريطانيا وفرنسا وحدهما وسط “عاصفة الحرب”، وتراقب هي من بعيد حتى ينزف كلا الطرفين دمه، ويترنح تحت مطارق الحديد.

5. إذا كانت سياسة الاتحاد السوفياتي واليابان هي الانتظار والمتابعة حتى تظهر حركة الموازين، فإن الولايات المتحدة الأميركية يتعين أن تتذرع بصبر أطول، وهي قادرة على ذلك بحكم أمان المحيطات.

ففى حين أن روسيا ملاصقة من الشرق غرب أوروبا بحيث يصل إليها صدى المدافع، فإن الولايات المتحدة بعيدة.

كما أن حال اليابان نفس الشيء، لأن اليابان على تماس مباشر مع أطراف الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في آسيا (الهند والهند الصينية).

وعليه فإن الولايات المتحدة تقدر وتملك أن تكون آخر الصابرين لكي تكون أول الوارثين!

وفي بداية الحرب بدت الشواهد أمام “روزفلت” مثيرة للقلق، فبريطانيا وفرنسا اللتان دخلتا الحرب أخيرا (سبتمبر 1939) بعد سلسلة من التراجعات المهينة أمام “هتلر” (الذي ضم النمسا بالكامل وقضم نصف تشيكوسلوفاكيا، واستعد لالتهام أجزاء من بولندا) لا تظهران عبر المحيط مستعدتين للحرب، وأول شاهد أن البلدين معاً يملكان نحو ألف طائرة قاذفة مقاتلة في حين أن “هتلر” استعد بقرابة ثلاثة آلاف طائرة، ونفس النسبة تقريبا في المدرعات، وفي البحرية إلى درجة أن الأسطولين البريطاني والفرنسي وقعا تحت تهديد أسطول هائل من الغواصات الألمانية الحديثة أصبح في مقدوره إغراق 500 ألف طن كل شهر من الحمولات البحرية للحلفاء!

لكن أجراس الخطر راحت تدق في واشنطن عندما فوجئت بالسقوط السريع لفرنسا واستسلامها، ودخول الجيش الألماني لاحتلال باريس (يونيو 1940)، ثم تلى ذلك أن إيطاليا دخلت الحرب واعتقادها أن الحلفاء هزموا، وأن سقوط فرنسا لا بد من أن يتبعه استسلام بريطانيا.

وكان البيت الأبيض يتابع بقلق وتوتر، وتوقع “روزفلت” أن “هتلر” يستعد لغزو بريطانيا عبر بحر الشمال (خطة أسد البحر) وكذلك انهمك الرئيس الأميركي يبحث خطط طوارئ للتدخل على عجل في أوروبا قبل أن تتمكن ألمانيا من نصر نهائي يمكنها من الإرث الإمبراطوري الأعظم، لكن الزعيم الألماني “أدولف هتلر” ارتكب في تلك اللحظة الفارقة غلطة عمره، فقد تحول عن عملية “أسد البحر” إلى عملية غيرها في الشرق هي عملية “برباروسا” (غزو الاتحاد السوفياتي) وبها فإن “هتلر” لم يغرز في فيافي الثلوج الروسية فحسب، وإنما ضاعت على “ستالين” كذلك مزايا سياسة الصبر التي كان يلتزمها، وبدلا من أن يصبح وارثا إمبراطوريا، وجد نفسه يدافع عن حياته ذاتها!

وتشجعت اليابان وكان “روزفلت” يريدها أن تتشجع وتدخل الحرب حتى ولو كان دخولها ضد الولايات المتحدة نفسها، وذلك ما فعلته طائرات أسطول الجنرال “ياماموتو” في “بيرل هاربر”، وكان “روزفلت” يتوقعه ولعله سعى إليه، لكي يقنع الرأي العام الأميركي بأن الولايات المتحدة تدخل الحرب مضطرة للدفاع عن نفسها وليس بدافع إرث إمبراطوري تسعى إليه قياداتها المالية والاقتصادية والسياسية.

ودخلت الولايات المتحدة إلى الحرب فعلا في ديسمبر 1941 وكانت الموازين قد مالت بشكل لا يقبل التباسا! ولم يضيّع “روزفلت” وقتا:

1. قبل بالاستراتيجية العليا للحرب كما وضعها الفيلد مارشال “آلان بروك” رئيس هيئة الأركان الإمبراطورية (البريطانية)، وبمقتضاها فإن الحرب ضد “هتلر” لتحرير أوروبا تكون هي ميدان المجهود الأول للحلفاء ثم تجيء الحرب ضد اليابان في المرحلة الثانية، والتقدير أن هزيمة الدولة القائدة للمحور، وهي ألمانيا النازية تقضي على العدو الأكثر خطورة وتكشف حلفاءه الأضعف وراءه (اليابان وقبلها إيطاليا).

2. في مقابل هذا التأجيل للمعركة مع اليابان (وهي صاحبة الأولوية من وجهة نظر الرأي العام الأميركي) فإن الولايات المتحدة تحصل على وضع خاص في دول الكومنولث القريبة منها أو القريبة من مسرح العمليات ضد اليابان عندما تجيء اللحظة، وعلى هذا الأساس انتشرت القواعد الأميركية والتسهيلات وأدوات ووسائل النفوذ السياسي في كندا وفي أستراليا.

3. ومع حاجة بريطانيا الشديدة وعلى عجل إلى حشد من مدرعات جديدة تدعم مسرح العمليات في الشرق الأوسط، استعدادا للمعركة الكبري في العلمين (أغسطس 1942) شحنت الولايات المتحدة فورا فرقة دبابات قوامها ثلاثمئة دبابة حديثة من طراز “غرانت”، ثم تعللت بأن وجود هذه الدبابات الأميركية يتطلب حضورا أميركيا مباشرا في ساحة الشرق الأوسط، وكذلك ظهرت قواعد أميركية في المملكة العربية السعودية (الظهران)، وفي الخليج (مطار البحرين)، وفي مصر قاعدة (هاكستب) البرية، وهي ما زالت حتى الآن تحمل هذا الاسم، ومطار “باين” وكان أيامها في الموقع الذي حل فيه مطار القاهرة الدولي الآن.

ثم بدأت المشاركة الأميركية عمليا في ميادين القتال بحملة “تورش” <> التي نزلت بها القوات الأميركية تحت قيادة الجنرال “دوايت أيزنهاور” في شمال أفريقيا، وكانت تلك هي العملية التي جرى ترتيبها والنزول بمقتضاها على شواطئ المغرب (في شبه رحلة بحرية سياحية، بعد أن جرى التنسيق مع جنرالات الجيش الفرنسي هناك، ممن بقوا بعيدين بعرض البحر عن حكومة “فيشي” التي استسلمت للألمان).

ومن المغرب بدأ الاستعداد للقفز نحو صقلية (بالترتيب والتنسيق مع عصابات المافيا)، وكذلك راح الوجود العسكري الأميركي حول البحر الأبيض يحتل مساحة أكبر من المشاركة العملية الأميركية على جبهات القتال.

ولم يلبث الرئيس “فرانكلين روزفلت” أن لحق بالقوات الأميركية في شمال أفريقيا، نازلا في ميناء الدار البيضاء وفي استقباله قادة جيوشه، وأولهم “أيزنهاور” و”عمر برادلي” و”مارك كلارك” وبعدهم جنرالات فرنسا، ووسط الجميع سلطان المغرب “محمد بن يوسف” (محمد الخامس)!

وطار رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل” يلحق بحليفه الأميركي الكبير في الدار البيضاء!

وفي المغرب بدأ رئيس الوزراء البريطاني يشك في نوايا صديقه “روزفلت”، ذلك أن خطط النزول في صقلية وهي هدف القمة بينه وبين الرئيس الأميركي لم تأخذ وقتا طويلا، ثم اكتشف “تشرشل” أن حليفه وصديقه “روزفلت” يقضي كل وقته في محاولة لتأسيس وجود عسكري ونفوذ سياسي أميركي في المغرب، وأنه دعا سلطان المغرب (محمد بن يوسف محمد الخامس) إلى عشاء بينهما في قصر “أنفا”، ثم راح يحدثه عن مستقبل بلاده بعد الحرب بعيدا عن فرنسا (وهي الدولة المستعمرة) وقريبا من أميركا (وهي جارة مباشرة للمغرب على الشاطئ الآخر للأطلنطي)!

وحين سمع “تشرشل” بما دار في العشاء، سارع إلى لقاء “روزفلت” لحديث صريح تسجله محاضر الطرفين (البيت الأبيض و10 داوننغ ستريت مقر رئاسة الوزارة البريطانية)، وطبقا لهذه المحاضر فإن “ونستون تشرشل” لفت نظر “روزفلت” إلى أن بعض التصرفات الأميركية في المغرب وفيها “بأمانة” عشاء الرئيس مع سلطان المغرب يمكن أن تغضب فرنسا وتخسرها كحليف في الحرب.

وتساءل “روزفلت” “عن أي فرنسا يتحدث “ونستون” وأين فرنسا الآن؟” أليست هي بلدا احتله الألمان، ثم إننا نحن (وأنتم) تعهدنا بتحريره مع غيره من بلاد أوروبا التي سقطت أو استسلمت لهتلر؟”.

ورد “تشرشل” “بأنه يقصد حركة فرنسا الحرة التي يقودها الجنرال “ديغول”.

ورد “روزفلت” “بأنه لا يعرف شيئا عن هذه الحركة، وقد سمع عن “ديغول”، لكن “ديغول” في رأيه اختراع لخلق شبح سياسي يمكن التعامل معه كممثل لفرنسا ولصالح بريطانيا!”.

ويضيف “روزفلت” “أن هناك فرنسا واحدة نصفها تحت احتلال ألمانيا مباشرة ونصفها الآخر تحت احتلال غير مباشر بمقتضى معاهدة استسلام وقع عليها الماريشال “بيتان” رئيس الحكومة الفرنسية في “فيشي” ويستطرد “روزفلت” “نحن لم نقطع علاقاتنا بهذه الحكومة في فيشي ولدي هناك ممثل رئاسي خاص كما تعلم هو الأميرال “ليهي”، لكننا نعرف وهم يعرفون أنهم بلد محتل يتقرر مصيره مثل مصير غيره بعد التحرير.

وحاول “تشرشل” تذكير “روزفلت” بأن كل عناصر المقاومة الفرنسية بما في ذلك كبار ضباط الجيش في الإمبراطورية الفرنسية وراء البحار وحكام المستعمرات، والتجمعات الفرنسية الكبيرة في الخارج والهيئات الفرنسية الكُبرى (وفيها شركة قناة السويس الدولية) وقفوا جميعا وراء “ديغول” واعتبروه رمزا لإرادة المقاومة، وعليه فإنه إذا كان الماريشال “بيتان” يمثل فرنسا المحتلة أمام الألمان، فإن “ديغول” يجب الاعتراف به ممثلا فعليا لفرنسا الحرة خارج أوروبا، وحليفا في الحرب حتى يتحقق النصر.

ورفض “روزفلت” كل طروحات “تشرشل”، وفي تفكيره كما يروي المؤرخ الكبير “آرثر شلزينغر” في كتابه الضخم عن “روزفلت” أن الرئيس الذي قاد الولايات المتحدة الأميركية حتى أبواب النصر كان رأيه:

أن الجنرال “ديغول” لا يمثل إلا نفسه، وأن أميركا لن تعترف له بما هو أكثر من ذلك مهما كانت درجة اعتداده بدوره وادعائه بتمثيل فرنسا، كما أن الرئيس الأميركي لا يرى فيه إلا محاولة كاريكاتورية للمزج بين شخصيات “جان دارك” و”نابليون” و”كليمنصو” (زعيم فرنسا في الحرب العالمية الأولى)، وأنه في هذا الموضوع على خلاف لا يداريه مع بريطانيا، التي تريد أن تستعمل “ديغول” كحليف صغير في الحرب يسهل عليها انتزاع الإمبراطورية الفرنسية لصالحها، لأنها ما زالت رغم ما أصابها تطمع إلى تعويض خسائرها في الحرب بإرثها، وذلك ما فعلته في الشام (سنة 1941) حين دخلتها بقصد تحريرها من أصدقاء الألمان (حكومة فيشي) ثم تركت فيها واحدا من جنرالاتها وهو “سبيرز”، وتكليفه أن يهندس عملية “ربط” الشام ببريطانيا ونفوذها.

أن “روزفلت” لا يستطيع أن يتصور فرنسا بعد الحرب إلا دولة من الدول المحررة بجهود غيرها، وليس بجهودها الذاتية، وهذه الدول وضمنها فرنسا يجب أن تقبل الحياة منزوعة السلاح، حتى لا تعود أوروبا إلى سباق سلاح جديد يشعل نيران حرب عالمية ثالثة!

ومن المفارقات على الناحية الأخرى أن “جان لاكوتور” مؤرخ حياة الجنرال “ديغول” يروي عن الزعيم الفرنسي قوله: “إنني أستطيع أن أفهم إنكلترا والصين وألمانيا، لكنى لا أستطيع أن أفهم أميركا لأنه ليست لها في التاريخ مفاتيح تمكن من ذلك”.

وعندما ظهرت طلائع انتصار الحلفاء، وتقرر عقد مؤتمر “يالطا” (ميناء البحر الأسود الجميل) فإن “روزفلت” رفض دعوة فرنسا للمشاركة فيه، قائلا “إنه لا “ديغول” ولا غيره يمثل فرنسا”، ثم إن “فرنسا لن تكون طرفا في بحث أمور ما بعد الحرب، وإنها سوف تكون موضوعا من موضوعات ما بعد الحرب، فقد استسلمت ونحن حررناها، وكذلك يجب أن يكون”.

كانت الأمور واضحة من وجهات نظر مختلفة أمام “روزفلت” وأمام “تشرشل” أيضا:

بالنسبة لروزفلت كانت الولايات المتحدة الأميركية ترى أن الوقت قد حان حتى قبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية، لكى تؤول أملاك فرنسا إلى نفوذ أميركا، وكذلك كان من شمال أفريقيا إلى الشام ومن غرب آسيا إلى جنوب شرق آسيا (الهند الصينية الفرنسية وضمنها فيتنام).

وبالنسبة لتشرشل وقد كان يتابع ما يجري ويفهم مغزاه، فإنه راح يقاوم ويصر لكنه خسر المعركة، وأصبح عليه أن يتراجع إلى خط دفاعه الثاني، وأن يستميت عليه، فقد خشي أن الدور في ابتلاع الإمبراطوريات واصل إلى بريطانيا، ولم يبق أمامه غير أن يقف في الخط يعاند ويقاوم، فهو على حد قوله “لم يصبح رئيسا لوزراء ملك بريطانيا حتى يقوم على تصفية إمبراطوريته!”.

وكان “تشرشل” في صميم قلبه يدرك أن هذه معركة لا تحتاج إلى عنف المواجهة، ولا يمكن حسمها بصراع مكشوف، وإنما عليه أن يستدعي إليها كل خبرة وحكمة ودهاء إمبراطورية لم تكن تغرب عنها الشمس! ولم تجد خبرة وحكمة ودهاء الإمبراطورية البريطانية، لأن حقائق القوة هي الحكم الأول والأخير في بقاء الإمبراطوريات أو زوالها.

وفي الحقيقة فإن “روزفلت” كان في عجلة من أمره، واعيا أنه إذا كان عليه أن يجرد بريطانيا من ممتلكاتها، فإن عليه أن يفعل ذلك وقت الحرب وليس بعدها. وتروي الوثائق الأميركية أن “روزفلت” كتب توجيها رئاسيا (بتاريخ 1943) موجها إلى “جيمس لانديس” (مدير العمليات الاقتصادية في الشرق الأوسط)، يشير فيه إلى أهمية بترول الشرق الأوسط وخطورة الموقع الاستراتيجي للمنطقة قائلا:

(الوثيقة رقم 1541/24 البيت الأببض)
8 مارس 1944 
“من الرئيس روزفلت 
إلى والتر جيمس لانديس (مدير العمليات الاقتصادية في الشرق الأوسط) 
عزيزي “والتر لانديس” 
إن الشرق الأوسط منطقة توجه للولايات المتحدة مصالح حيوية، والحرص على هذه المنطقة وتجنيبها شرور قلاقل الماضي، هو أمر له أهمية متزايدة لها قيمة بالنسبة للعالم كله، وخاصة بالنسبة للتفاوت في استعمال الموارد الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة. 
ومع أن الولايات المتحدة لا تنوي ولا ترغب في التدخل في الشؤون الداخلية لهذه المنطقة، فإن هذه الحكومة حريصة على أن ترى أن موقع وموارد هذه المنطقة في خدمة كل الأمم دون تمييز، وهدفنا على هذا الأساس أن تُصان مصالح كل الأطراف، وأن تتوقف الميزات التي يختص بها طرف على حساب باقي الأطراف”.

وكانت وراء العبارات معانٍ وإشارات كفيلة بإثارة قلق رئيس الوزراء البريطاني، فقد أحس (قبل أن تتاح له فرصة قراءة النصوص وهي سرية في ذلك الوقت) أن الولايات المتحدة لا تبغي قسمة عادلة للمواقع والموارد، وإنما هي ماضية إلى هدفين متوازيين في الشرق الأوسط:

أولهما: وجود حاكم في المراكز المهمة استراتيجياً في المنطقة. 
ثانيهما: نصيب الأسد في ثرواتها الهائلة نفطيا.

وكان “تشرشل” يقاوم بكل جهده، واتجاه الريح ضده مهما حاول. وكان ضمن محاولات “تشرشل” أن يدعو إلى نوع من الوحدة في مجتمع الناطقين باللغة الإنكليزية على جانب الأطلنطي، فيقوم اتحاد “أنجلو أميركي” يرضي كل الفرقاء بتقاسم المصالح بينهم. ولم يكن “روزفلت” يمانع في أي دعوة للوحدة تستند إلى اللغة الإنكليزية، لأن اللغة في حد ذاتها خطاب، وما يعطي لأي خطاب قيمته هو المضمون فإذا كان مضمون الأبجدية الإنكليزية هو حقيقة القوة الأميركية إذن فإن “تشرشل” يستطيع أن “يتخيل” ما يشاء كما يشاء!

وكان ضمن محاولات “تشرشل” أيضا أن يلفت النظر إلى الخطر السوفياتي، وكان هو صاحب تعبير “الستار الحديدي” الذي يوصي بأن الشيوعية المتحصنة وراء الخط الفاصل بين شرق أوروبا وغربها هي الخطر الداهم على الحضارة الإنسانية كلها.

ولم يكن في أميركا من يمانع في ذلك، لكن الفعل وليس القول هو صانع الحقائق، وهكذا قامت الولايات المتحدة معترفة بالخطر السوفياتي بإنشاء سلسلة من الأحلاف العسكرية تطوق الاتحاد السوفياتي من كل اتجاه، وأولها حلف الأطلنطي في أوروبا، وحلف جنوب شرق آسيا (لمواجهة الصين حليف السوفيات وقتها) ثم محاولة إنشاء حلف في الشرق الأوسط تصدرت له بريطانيا، (لكن خُطى هذا الحلف الأخير تعثرت في حرب السويس سنة 1956).

وبرغم أن بريطانيا ظلت حتى بعد حرب السويس تعاند في ما يتعلق بالشرق الأوسط لاعتقادها أنه بموقعه وثرواته احتياطي أخير لها، فإن هذا الاحتياطي جرى شراؤه منها في صفقة قيمتها أربعمئة مليون دولار كانت ضرورية لإنقاذها من أزمتها المالية الخانقة في أعقاب حرب السويس.

وفي مؤتمر “برمودا” (مارس 1957) الذي جمع بين الرئيس الأميركي “أيزنهاور” (وهو جنرال أميركا الشهير زمن الحرب) ورئيس وزراء بريطانيا “هارولد ماكميلان” (وهو الوزير البريطاني المقيم الملحق بقيادة “أيزنهاور” وقت الحرب) جرى توقيع اتفاق مكتوب جاء الأغرب من نوعه في تاريخ الإمبراطوريات، فقد ظهرت فيه إمبراطورية قديمة تسلم ممتلكاتها لإمبراطورية جديدة، وكأن الأقاليم والدول بضائع في المخازن أو على ظهر السفن. وكان نص الاتفاق كما يلي:

“اتفاق على تخفيض الالتزامات البريطانية وراء البحار

1. أن الرئيس الأميركي يعبر لرئيس الوزراء البريطاني عن فهمه للضرورات التي تدعو الحكومة البريطانية إلى تخفيف أعبائها في الشرق الأوسط، وهو يتعاطف مع رغبة هذه الحكومة في جعل التزاماتها في المنطقة متوازنة مع مواردها الاقتصادية والعسكرية.

2. أن الرئيس أخطر رئيس الوزراء البريطاني بأن الولايات المتحدة لن تستطيع تحمل كل الأعباء البريطانية التي ترى الحكومة البريطانية أنها مضطرة إلى التخلي عنها، ولهذا فإن الولايات المتحدة تأمل أن تواصل الحكومة البريطانية إخطار الحكومة الأميركية بخططها في المستقبل.

3. أن الرئيس سوف يتخذ الترتيبات التي تكفل استمرار التشاور مع الحكومة البريطانية في المسائل والحالات التي يتعين فيها استطلاع رأي الحكومة البريطانية، وسوف يكون ذلك موضع الاعتبار.

4. أن الرئيس يعرب عن أمله بأن الحكومة البريطانية سوف تقوم بتخفيضات تدريجية ومنتقاة بما يناسب المصالح الغربية بصفة عامة، ويتفق مع مطالب الأمن الضرورية للسلامة المشتركة”.

5. أن حكومة الولايات المتحدة سوف تقدم للحكومة البريطانية دعما ماليا فوريا مقداره أربعمئة مليون دولار.

وعندما غابت الشمس عن الإمبراطورية البريطانية كان صقيع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي يملأ ساحة الصراع العالمي، وكانت الإمبراطورية الأميركية تديره على ناحيتها بإصرار مارس كل أساليب الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية.

وعلى امتداد عقود هذه الحرب الباردة، كان المطلب الإمبراطوري الأميركي عهدة لدى وكالة المخابرات المركزية الأميركية، التي طاحت في العالم الثالث بالانقلابات والحروب المحدودة والحملات النفسية، وفيها التخويف والتشهير وزعزعة استقرار النظم واغتيال زعمائها بالرصاص (كما حدث مع “الليندي” في شيلي) أو بالسم (كما جرت محاولة مع “كاسترو” في كوبا) أو بالقتل المعنوي (كما حدث لأحمد سوكارنو في إندونيسيا) أو بالخنق الاقتصادي (كما حدث لدول عديدة طوقها الحصار وفيها من العالم العربي حتى وقت قريب السودان وليبيا واليمن).

وكانت سياسة الانقلاب من الداخل لعبة أثيرة للوكالة أثبتت جدواها في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا، ولم يكن الهدف من هذه الانقلابات احتلال مواقع على عجل للحصول على موارد بسرعة، فذلك كله يستطيع أن ينتظر، لكن المهم قبل أي شيء هو إخلاء ساحات وإزاحة واقتلاع أفكار وحركات ورجال، ومنعهم من تثبيت أقدام في أرض، وزرع بذرة في تربة. وليس مهماً إذا كان من عواقب ممارسات الإزاحة والاقتلاع أن تنحدر بعض البلدان أو الأقاليم إلى الخراب أو إلى الفوضى، لكن المهم في زمن الحرب الباردة ترك الساحات خلاءً مفتوحا بما عليها، ولو كانت خرابا وفوضى حتى يستطيع النسر الإمبراطوري الأميركي الذي يحوم عاليا فارداً جناحيه في الأجواء أن ينقض حين يلمح غنيمة أو يحط حيث يشم رائحة!

وعندما انتهت الحرب الباردة كانت سفينة الإمبراطورية الروسية (السوفياتية) جانحة على الشاطئ، لأن ربانها الأخير (الكابتن “غورباتشوف”) لم يكن يعرف ما فيه الكفاية عن معارك البحار وسط الأنواء والعواصف، وكانت حمولته أقاليمه وجمهورياته تنتقل أمام عينه إلى حوزة إمبراطورية أخرى (عليها الكابتن “ريغان” يؤدي الدور التقليدي للكابتن “مورغان”!).

وكانت هذه الإمبراطورية الأميركية هي الإمبراطورية الأخيرة والنهائية أو كذلك القصد والعزم ووراءهما التخطيط!