القوات المسلحة في السياسة الأمريكية


محمد حسنين هيكل


الجيش الأمريكي استدرج خارج اختصاصه لخوض حرب ضد الإرهاب هي من إختصاص المخابرات
إجتماع في البنتاجون تم فيه رصد ما لدى أمريكا من قوة وما لدى العراق

ملاحظة:

هذا الحديث يتعرض لمسألة شديدة الأهمية والحساسية، وهي العلاقة بين “السياسة والسلاح” في الحالة الأمريكية الراهنة  أي بين إدارة الرئيس «جورج بوش» (الابن) وبين هيئة أركان الحرب المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية في شأن ما جرى ويجري في العراق وفي غيره بعده.
وسبب الأهمية مفهوم، ومرجعه أنه في مشروع إمبراطوري يهدف إلى تثبيت التفوق الأمريكي وتحويله إلى سلطة عالمية تفرض سطوتها على القرن الحادي والعشرين (على الأقل) فإن السلاح له الدور الرئيسي في كافة مراحل التخطيط والتنفيذ والتأمين، وتلك طبيعة الامبراطورية، ومعنى ذلك أن حوار السياسة والسلاح في واشنطن أخذاً ورداً شداً وجذباً له تأثيرات مهمة وواسعة لا تقتصر على واشنطن وحدها، وإنما تمد انعكاساتها ونتائجها إلى الساحة العالمية الأوسع.
وسبب الحساسية مفهوم أيضا، وملخصه أن هذه العلاقة بين السياسة والسلاح سواء فيما جرى ويجري في العراق وبعده مسألة مُحاطة بالسرية والصمت. ومع أن الكثير من التفاصيل في هذا الشأن تسربت، فإن المشكلة أن بعض التسريب كان مقصودا لكي تسبق الانطباعات وتؤثر، ثم إن بعضه الآخر كان مغلوطا حتى تتداخل الروايات، وتهتز الصور، ويختلط السياق، وتمتلئ الأجواء بضباب يتم تحت ساتره ترتيب الأشياء، ومن ثم تستقر القواعد الطارئة كأمر واقع يصبح بدوره قانونا يعطي للمؤسسة العسكرية الأمريكية دورا مختلفا في مشروع إمبراطوري شديد الجرأة جامع القصد!
وبسبب هذه «الأهمية» وهذه «الحساسية» فإن أي كاتب صحافي يجد نفسه أمام مأزق مزدوج:
أهمية العلاقة بين السياسة والسلاح في الشأن الإمبراطوري القادم لا تسمح بتجنب الموضوع.
والحساسية التي تحيط به سرية وصمتا لا تمكن بسهولة من النفاد بعيدا فيه بثقة متأكدة مما تقول (خصوصا بالنسبة لصحافي عربي عابر مهما بلغ حسن ظنه في قيمة مصادره).
وإزاء هذا المأزق ومن باب الإنصاف للحقيقة وللقارئ معا، فقد كان واجبا أن توضع لسياق هذا الحديث حدود ظاهرة تفرق على سياقه بين ثلاثة عناصر:
1- معلومات أكيدة تتلاقى عندها درجة من الإجماع أو يعززها ظهور أوراق ترجح وأحيانا تقطع.
2- شهادات مسؤولة يمكن قبولها اعتمادا على اطلاع أصحابها وصلاتهم حتى وإن تعذر لأسباب بدهية إسنادها إلى مصادرها.
3- استنتاجات يقع التوصل إليها بالنظر في المنطق الداخلي للوقائع ويكون منها ما يكفي بقدر من الحدس المأمون جسورا بين المعلومات والشهادات، بحيث تتسق الصور وتتكامل.

وهدف هذه الحدود في النهاية أن يكون أمام قارئ هذا الحديث حقه في المعلومات، وحقه في تقدير ما يُعرض منها عليه، وحقه في وزن الحوادث بمعياره المستقل ومنظوره، وكذلك كان الحرص على الإشارة خلال السياق لنوعية كل عنصر من عناصر الحديث تنبيهاً مسبقاً يحاول أن يكون مسؤولا.

 

أولا: الجنرال يقفز بالبراشوت لتهدئة أعصابه

خلفية

من 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وحتى 29 يناير/ كانون الثاني 2002 كانت القوات المسلحة الأمريكية تخوض حربا في أفغانستان هدفها إسقاط نظام طالبان وزعيمه “الملا عمر” وتصفية تنظيم القاعدة وزعيمه «أسامة بن لادن».

ومع ذلك فإن رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة في واشنطن ظلت تعتقد أن إدخالها في الحرب على الإرهاب إقحام لها فيما هو خارج اختصاصها ووسائلها، فالإرهاب في تقديرها اختصاص أصيل لوكالة المخابرات المركزية ولمكتب التحقيقات الفيدرالي، وأما القوات المسلحة فإنها تستطيع على أحسن الفروض أن تساعد بضربات صواريخ موجهة من بعيد تزعج وتخيف، وقد تزيد على ذلك تطوعا بدفع مجموعات من القوات الخاصة إلى بعض المواقع تبعثر أو تدمر لكن تلك تظل عمليات جانبية ذات مقاصد محدودة، يصعب اعتبارها مجهودا رئيسيا في حرب.

وبصرف النظر عن الاختصاصات فإن القوات الأمريكية المسلحة اسْتُدرجت ليس فقط خارج اختصاصها، وإنما أيضا خارج عقيدتها المعتمدة منذ حرب الخليج سنة ،1991 والتي اشتهرت «بعقيدة باول» على اسم واضعها الجنرال «كولن باول» رئيس هيئة الأركان المشتركة (ووزير الخارجية الآن).

والحاصل أن هيئة الأركان المشتركة “تهاودت” مع الاستدراج بظن أنها مضطرة إلى قدر من المرونة يستجيب لدواعي السياسة وضغوطها بعد مفاجأة سبتمبر 2001 فلم يكن معقولا بعد حدث من ذلك الحجم أن تظل القوات الأمريكية المسلحة بعيدة عن «ردود أفعاله» بدعوى أنه ليس اختصاصها، ولا أن تتمسك «بعقيدة باول» بظن أنها شرط العمل العسكري في الزمن الجديد.

كانت هيئة أركان الحرب المشتركة تدرك منذ البداية أن حربها في أفغانستان معركة مع أشباح، وضد عدو يصعب الإمساك به، لأن القتال معه بلا جبهة وبلا خطوط وبلا منشآت اقتصادية وعسكرية وعقد مواصلات يمكن التركيز عليها ومع ذلك فإن رئاسة الأركان قبلت بشيء مما طلب منها، وفي تقديرها أن المهمة "غطاء بالسلاح لجهد تقوم به وسائل العمل السري لبلوغ المقصود سياسيا".

ثم حدث أن هيئة الأركان المشتركة وجدت نفسها في موضع اللوم بادعاء أنها لم تقدم للسياسة ما يسترها، ورغم أن نظام طالبان اختفى فقد كان واضحا لمن يريد أن يرى أن ذلك النظام تفكك وتفرق، لكن أعضاءه وأنصاره تحولوا من تجمعات في الجبال إلى ذرات رمل على السفوح والوديان، كما أن «أسامة بن لادن» نفسه تبخر وانقلب من زعيم إرهابي إلى شخصية تليفزيونية تشد اهتمام الرأي العام في الحالتين، وذلك في حد ذاته يكفيه، لأن الإرهاب بالدرجة الأولى فِعْل يعتمد التأثير النفسي المدوي أكثر مما يقصد إلى العمل العسكري المنظم.

وكان وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» هو الذي عرض موقف رئاسة الأركان المشتركة أمام الرئيس «بوش» في اجتماعات مجلس الأمن القومي، بمقولة انه لا يستطيع مع الظرف الموضوعي الراهن في أفغانستان أن يطالب القوات المسلحة بأكثر مما فعلته، ومع أنه كان أول من ضغط عليها لكي تحقق نتائج أكثر إبهارا، إلا أنه الآن أول من يدرك استحالة مطالبتها بالزيادة، لأن «أفغانستان» ليس فيها هدف واحد يثير خيالا أو يغري بجائزة. فقد كانت في «أفغانستان» تسعة أهداف تم ضربها، وجرت العودة إليها مرة ومرات، والآن أصبح التكرار أضحوكة، وإذن فلابد من ميدان آخر غير «أفغانستان» تثبت فيه القوة الأمريكية اقتدارها، وكان «رامسفيلد» ومعه مجموعته الإمبراطورية يضع عينه على العراق، وكان تعبيره في محضر مجلس الأمن القومي (14  15 سبتمبر 2001) "إننا كلما رفعنا الـ : «بير سكوب» (منظار الغواصة) فوق سطح الماء، وأدرنا البصر على عرض البحر حولنا، لا نجد هدفا أنسب من العراق"، وفي تأكيده لرؤيته ذكر «رامسفيلد»:

1- الدول المساندة للإرهاب هي الأهداف الأولى بالعقاب، لأنها أساس البلاء ومصدر التهديد.

2- ان هناك ذريعة مشروعة لحرب العراق تتمثل في أسلحة الدمار الشامل التي يملكها ذلك البلد ويمكن أن تصل عن طريقه إلى أيدي الإرهابيين.

3- ان العراق في قلب المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية (الموقع والبترول و«إسرائيل»!)، وهو من موقعه في هذه المنطقة يهدد أصدقاء تقليديين للولايات المتحدة، وكذلك فهو بكل المعايير يستحق وصف «الدولة المارقة»!

4- ان العراق منهك ومعزول ويسهل الاستفراد به وإسقاط نظامه، كما يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد في جهدها على تحالف دولي وإقليمي يتعاون أطرافه معها بقواتهم وأموالهم وقواعدهم ومخابراتهم.

5- ان في العراق أهدافا كبيرة يمكن ضربها بعمليات مبهرة، كما أن في العراق جوائز هائلة يمكن الاستيلاء عليها بأقل تضحيات متصورة.

وحتى شهر يناير 2002 لم يكن “دونالد رامسفيلد” رغم جهده «التبشيري» بأفضلية نقل المعركة من «أفغانستان» إلى «العراق» قد لقي الاستجابة التي توقعها وكان الجميع في مجلس الأمن القومي يرون وجاهة ما يُطْرَح ويوافقون عليه، مع خلافهم في التوقيت، أي أن ما يطلبه «رامسفيلد» ليس الآن وقته، بل موعد لاحق بحسب ما تجيء به التطورات.

ثم وقع أواخر سنة 2001 أن «كارل روفي» مستشار الرئيس الأقوى للشؤون الداخلية، ومسؤول حملته الانتخابية تَحَسَّب مبكرا إلى أن «أفغانستان» لن تنفع الرئيس في الانتخابات القادمة للتجديد سنة ،2004 خصوصا أنه لا يتوقع مفاجآت سارة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإن العثور على نجاح ساحق خارجي يصبح مسألة ضرورية، وعندما راح «كارل روفي» يبحث ويستقصي توصل هو الآخر بعد لقاءات مع «دونالد رامسفيلد» إلى أن العراق هو المسرح المهيأ.

وكذلك فإن خطاب حالة الاتحاد الذي قدمه الرئيس «جورج بوش» أمام مجلس الكونجرس يوم 29 يناير 2002 أطلق شعار «محور الشر» موجهاً أصبع الاتهام بالتحديد إلى العراق وقائلا بالنص: "إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح للنظام الأشد خطورة في العالم أن يهددها بواسطة أسلحة الدمار الشامل التي يملكها ويطورها ويقدر على استخدامها".

وكذلك رُفعت من فوق الشاشات خريطة «أفغانستان»، وظهرت خريطة «العراق»، وغامت صورة «أسامة بن لادن»، ولمعت صورة «صدام حسين»!

معلومات

كان خطاب الرئيس «بوش» عن حالة الاتحاد يوم الثلاثاء (29 يناير 2002)، وصباح يوم الجمعة أول فبراير/ شباط تجمع رؤساء أركان الحرب في مكتب وزير الدفاع على موعد معه في «البنتاجون»، وبدأ «رامسفيلد» حديثه معهم "بأن اللعبة الآن في ساحة العراق، والقوات المسلحة الأمريكية وليس أي طرف غيرها هي اللاعب الأساسي، وعليها أن تكسب المباراة هناك وتفوز بالجائزة!".

ولم يكن ما قاله وزير الدفاع مفاجئا للقادة وبالذات لرئيس الأركان الجديد الجنرال «ريتشارد مايرز»، فقد كان (مثل سلفه الجنرال «هيوشيلتون») يتابع كواليس السياسة في «واشنطن» ويعرف أن مهمة غزو العراق في طريقها إليه (وكان الجنرال “مايرز” أهدأ أعصاباً من سلفه الذي كان مستثارا معظم الوقت من رئيسه (وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد»)، بما يسوقه بعد كل لقاء بينهما للذهاب إلى قاعدة جوية قريبة من واشنطن ليقفز بالبراشوت (وتلك هوايته)، حتى تهدأ أعصابه بينما هو ينزلق من الجو عشرين أو ثلاثين دقيقة ويلامس الأرض وقد استعاد لطف مزاجه، وأصبح مستعدا لتحمل كل الناس بمن فيهم «دونالد رامسفيلد»!

ومضى وزير الدفاع ذلك الصباح في واشنطن يشرح لرئيس أركان الحرب المشتركة وزملائه رؤيته للضرورات ويطلب منهم الاستعداد لحملة عسكرية على العراق، يريدها فكرا جديدا بالكامل وعملا يناسب المسرح المُهيَّأ هناك، مع وجود إمكانيات أمريكية لم تكن متاحة من قبل، ضد عدو لا يملك وسائل سلاح فعال، لأن ما لديه من عتاد (بما في ذلك الطيران والدفاع الجوي والمدرعات ووسائل الاتصالات) عمره ما بين خمسة عشر إلى عشرين عاما.

وتوسع «رامسفيلد» في شرح تصوره في التحضير للعمل المحتمل، مركزا على مجموعة نقط مجملها:

ان الولايات سوف تعمل في إطار الشرعية الدولية بأن تطلب عودة المفتشين الدوليين إلى العراق ليكملوا مهمة نزع أسلحة الدمار الشامل التي لم يتمكن السفير الاسترالي «ريتشارد بتلر» من إتمامها، وفي نفس الوقت تحرى ما قد يكون العراق أضافه إلى ترسانته من أنواع هذه الأسلحة خلال أربع سنوات توقفت فيها عمليات التفتيش.

ان العراق سوف يرفض استقبال بعثة مفتشين جُدد يترأسها «هانز بليكس» وزير خارجية السويد السابق، وشاهده أن الحكومة العراقية رفضت مجرد السماح لـ «بليكس» بزيارة «بغداد» للتباحث مع المسؤولين فيها، ومعنى الرفض أن النظام العراقي سوف يتم ضبطه متلبسا في حالة تمرد على الشرعية الدولية، وعندها يقوم تحالف دولي يفرض على «بغداد» احترام إرادة مجتمع الدول.

ان الولايات المتحدة سوف تكون المسؤول الرئيسي عن «العمل الدولي بالقوة»، كما حدث في المرة الأولى أيام حرب الخليج، فتلك طبائع الأمور.

زاد «رامسفيلد»:

إنه يريد طمأنة هيئة الأركان المشركة إلى أن الحرب سوف تكون مشروعة، بقرار من الأمم المتحدة وإعلان صادر عن مجلس الأمن.

كذلك فإن أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق، والتي توقف التفتيش عليها قرابة أربع سنوات تمثل خطرا مؤكدا يوفر للولايات المتحدة حقها القانوني والأخلاقي في استعمال السلاح.

أي أن الولايات المتحدة لن تنفرد بقرار الحرب وحدها، وإنما سوف تكون هناك على رأس تحالف دولي يمثل إرادة أوسع تضم عددا من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.

أضاف «رامسفيلد» متحفظا بما مؤداه:

انه ليس مؤكدا أن كل الأطراف الدولية سوف تدخل المعركة الجديدة بنفس «الحماسة» التي دخلت بها سنة 1991 لعدة أسباب:

لأن بعض الدول اعترتها الوساوس بعد انتهاء الحرب 1991 بأن الولايات المتحدة كانت هي التي تفردت بالمنطقة ومواردها.

كما أن بعض الدول قد لا ترى في الخطر العراقي ما تراه الولايات المتحدة، ومن ثم تميل نحو الانتظار حتى تجيء نهاية النظام العراقي بالسقوط من الداخل نتيجة للحصار وعواقبه.

ثم إن دول الإقليم الصديقة للولايات المتحدة سوف تكون جاهزة لما يطلب منها، لكنها في الغالب لن تكون مندفعة للحرب بنفس المقدار الذي كانت عليه سنة ،1991 حين كانت مستفزة بغزو العراق للكويت.

ومعنى ذلك أن كل دول الإقليم الصديقة سوف تقدم قواعدها وتسهيلاتها لأي عمل أمريكي، لكن من المشكوك فيه أن تكون بينها دولة مستعدة للمشاركة عمليا بقوات على الأرض.

وهو يتذكر أن زعماء هذه الدول كانوا في المرة الأولى سبَّاقين للحرب باسم تحرير الكويت، لكنهم عندما تحقق ذلك تحفظوا على تقدم قواتهم في أرض عراقية!

أضاف «رامسفيلد»: "ان لدينا حلفاء داخل العراق نفسه، وربما يقاتل بعضهم معنا لأسبابه الخاصة":

«تركيا» موجودة في الداخل وعلى أي حال فإن «تركيا» لديها حسابات.

 «الأكراد» لهم شبه دولة مستقلة في الداخل وهم حريصون على تدعيمها، وقد يفضلون المراقبة قبل المشاركة.

«المعارضة العراقية» وأنصارها في الداخل وسوف يتحركون بالتأكيد، لكن المسألة هي حجم قدرتهم بالتحديد.

ومعنى ذلك في النهاية (كذلك استخلص «رامسفيلد») أن أي تخطيط واقعي لعملية عسكرية عليه أن يأخذ في حسابه أنها سوف تستند إلى تحالف دولي وعربي وعراقي عريض، لكن الفعل على الأرض سوف يكون إلى حد كبير أمريكيا. ثم زاد " إننا متأكدون أن بريطانيا سوف تشارك معنا، ولكن بقوات محدودة!".

وقرب نهاية حديثه قال «رامسفيلد» وهو يضغط على العبارات والكلمات إنه "يريد أن يحذر هذه المرة من الخطأ الشائع الذي يقع فيه التخطيط العسكري دائما، وهو التفكير في «الحرب الماضية»، لأن الظروف في السنوات الإحدى عشرة بين الحربين تغيرت على نحو يجعل «التماثل» مستحيلا".

أضاف «رامسفيلد» انه لا يريد أن يزيد على ما قال لأنه يخشى أن يصادر أفكارا خلاقة لدى الجنرالات، لكنه يشدد على أن الظروف تستدعي خيالا يتجاسر على ما لم يسبق التفكير فيه، وهو من جانبه يستطيع أن يتصور عملية «رشيقة القوام» Lean  تنجز المهمة المطلوبة في الظروف المعروفة، وترسمها معركة خاطفة تحقق هدفها دون أعباء فادحة وخسائر بشرية كبيرة ولا يكون لها صدى في الداخل يسمح لبعض المترددين (وهم هناك دائما) بأن يستعيدوا ذكريات «فيتنام» وعقدها التي مازالت مترسبة في الوعي الأمريكي!

وكان آخر ما قاله «رامسفيلد» للقادة في ذلك الاجتماع أنه "يرجوهم ألا يركزوا جهدهم على تحريك جبال من الفولاذ بلا داعٍ (وكان يقصد حشد الفِرَق المدرعة)".

وفي الأيام والأسابيع التالية كان بعض ما توقعه «رامسفيلد» بشأن رفض العراق لعودة المفتشين إليه يتحقق فعلا:

يوم 13 فبراير (2002) أعلن نائب الرئيس العراقي «طه ياسين رمضان» أن العراق لن يسمح بعودة المفتشين الدوليين إلى أراضيه، لأنه ليس هناك سبب لعودتهم غير التجسس على العراق، فالكل يعرف أن العراق خال من أسلحة الدمار الشامل، "وأنه إذا أرادت الأمم المتحدة إرسال جواسيسها إلى العراق لصالح الولايات المتحدة، فإن العراق ممارسا لسيادته لن يسمح لهم بالعودة".

ولم يكن ذلك منصفا للأمم المتحدة ولا لأمينها العام «كوفي أنان»، الذي كانت علاقاته واتصالاته تمكنه من متابعة ما يجري في واشنطن، وكان بعض ما سمعه يثير قلقه، وقد كشف «كوفي أنان» عن مخاوفه لبعض الدول ذات العلاقة القريبة من «بغداد»، وضمنها «روسيا» و«فرنسا» طالبا تدخلها لإقناع الحكومة العراقية بقبول التفتيش الدولي على منشآتها العسكرية والمدنية التي يمكن أن تكون موضع اشتباه في صناعة أسلحة كيماوية أو جرثومية!

وفي قول «كوفي أنان»: "انه في تلك اللحظة لم يكن يمارس حرب أعصاب على «بغداد»، وإنما كان رجلا يلمح الخطر من بعيد ويحاول تجنبه، ثم إنه حين أبلغته باريس أن المشكلة الحقيقية ليست في الأمم المتحدة، وإنما في «شك مستحكم» لدى النظام العراقي بأن الولايات المتحدة تتقصَّده، وأن رئيسها الحالي (جورج بوش) مصمم على افتعال الذرائع لضربه فإن الأمين العام للأمم المتحدة وجد من حُسن التصرف أن يطمئن العراق علنا، فأصدر يوم 24 فبراير تصريحا قال فيه: "إن أي عملية لغزو العراق وإزاحة نظامه سوف تكون عملا غير حكيم Unwise".

وكان «كوفي أنان» يريد بذلك أن يؤكد لبغداد استقلاليته، ويطمئنها إلى أن المفتشين العائدين لن يكونوا جواسيس «المنظمة الدولية» لحساب الولايات المتحدة الأمريكية.

! ثانيا: نظرية «رامسفيلد» لـ: نصف الحرب

شهادات

مضت الحوادث في واشنطن ترسم لنفسها مسارا مستقلا لا ينتظر أحدا، ويوم الاثنين 8 أبريل/ نيسان (2002) كان وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» على موعد (الساعة 8 صباحا) في «البنتاجون» مع هيئة أركان الحرب، ومع عدد من كبار مستشاريها، وكانت رئاسة الأركان قبلها بأسبوع قد أرسلت إلى مكتبه مقترحاتها في شأن التكليف الذي أعطاه لها (أول فبراير 2002).

وطبقا لرواية أحد كبار المستشارين (لزميل له في قيادة حلف الأطلنطي بعد عشرة أيام من الاجتماع) فإن وزير الدفاع «رامسفيلد» دخل إلى القاعة «المؤمنة» و«المعزولة» في مبنى «البنتاجون» يحمل ملفا كبيرا يضم مشروع خطة «غزو العراق» كما أرسله إليه الجنرال «ريتشارد مايرز»، وفوق الملف مجموعة أوراق كبيرة صفراء كتب عليها «رامسفيلد» ملاحظات بخط يده لكنه طوال الاجتماع لم ينظر في أوراقه وإنما تدفق في الكلام، ومن الواضح أنه كان معبأ بما لديه.

ولم يضيِّع وزير الدفاع وقتا في المداخل والمقدمات، وإنما تكلم بطريقته المميزة التي تعكس باستمرار إيحاءً بنفاد الصبر، وبدت على وجهه ملامح تشي بأنه يريد "تلقين قادته درسا"، لأنه قام بعملية "تفكيك منظم" لكل ما أعدوه وقدموه له.

بدأ فقال ما مؤداه: "لسوء الحظ أن ما كان يخشى منه وقع لأن خطة هيئة الأركان المشتركة كما قدمت إليه نسخة منقَّحَة لخطة "عاصفة الصحراء" القديمة مع بعض التعديلات".

وملاحظاته المحددة كما يلي:

* أولا: حجم القوات المطلوبة بقوة 13 فرقة (مشاة ومدرعات وقوات خاصة)، و6 حاملات طائرات غير القواعد الجوية الجاهزة في المنطقة، وهو يسأل: هل المهمة في الظروف الحالية تقتضي هذا الحجم من القوات؟ (أكثر من ثلاثمائة ألف جندي باحتساب العناصر المساعدة).

وعلق: "إن الرئيس لا يفكر في إعلان تعبئة عامة أو جزئية، والخطة بهذا الحجم سوف “تأخذ” نصف القوة الأمريكية العادية أو أكثر، ومعنى هذا أنه حتى طبقا «لنظرية باول» التي "يرى من حوله أصدقاء كثيرين لها" فإن الولايات المتحدة عندما تخصص ذلك كله لمسرح العراق لن يكون لديها ما يمكنها من مواجهة احتمالات قد تطرأ على جبهة أخرى في أي لحظة (كوريا الشمالية)".

* ثانيا: الخطة في رأيه أخذت بالافتراضات القديمة التي شكَّلت حرب الصحراء (سنة 1991)، ولم تأخذ في حسابها أوضاعا جديدة.

وعلق: "ان حرب عاصفة الصحراء كانت على نحو ما من فصيلة التفكير التقليدي، وأما الحرب الجديدة فإن لديها إمكانيات جديدة لم تكن هناك قبل عشر سنوات، وهو يتحدث بالذات عن ثلاثة مجالات:

 مجال الدقة الشديدة في التصويب، وهذا مجال ركزت عليه القوة الأمريكية وجعلته هدفا أساسيا لها، ففي حين كانت دقة التصويب في صواريخ «توما هوك» أثناء حرب 1991 بنسبة 26%، فإن هذه النسبة ارتفعت إلى قرابة 70%، وذلك فارق مهول في فاعلية السلاح.

 مجال السرعة الفائقة في جمع المعلومات وتوصيلها، فالحروب كانت دائما ثلاثة أبعاد: "بر وبحر وجو"، والآن فإن هناك بُعدا رابعا دخل الساحة وقلب الموازين وهو بُعد الفضاء، ذلك أن أي ميدان قتال يمكن تغطيته الآن بأقمار صناعية ترصد أي حركة وهمسة عليه وترسلها في لمح البرق إلى القيادات الميدانية على الأرض، ومعنى ذلك أن دخول الفضاء لا يكشف المعلومات العسكرية فقط ولكنه يتيح على الفور كافة البيانات الضامنة لكفاءة المعارك (بما في ذلك الطقس وتغيراته المحتملة في كل بقعة، والحركة على الطرق المؤدية إلى كافة المواقع، وأحجام الحشود وأنواع السلاح لدى الوحدات المعادية في أي اشتباك)، وذلك يزود القوات بكفاءة مذهلة لم تكن متصورة من قبل.

والمجال الثالث هو مجال التفاعل واختصار المسافة بين الدقة والسرعة، وكانت المعلومات في عاصفة الصحراء تصل من مواقع جمعها إلى مواقع الاستفادة منها في ظرف ساعات، وأما الآن فإن التقدم في مجال التنسيق جعل الوصول فوريا في نفس اللحظة، بمعنى أن أي معلومة يمكن أن تكون لدى قوات المواقع الأكثر تقدما في ظرف دقائق، وذلك يجعل الاستجابة بالفعل فورية أو شبه فورية".

يواصل «رامسفيلد» كلامه (وفق شهادة المصدر الذي نقل عنه):

في صُلب الخطة (المُقدمة إليه) حسابات لقوة العراقيين مُبالغا فيها بضراوة Fiercely، لأنه اطلع على تقدير لحجم الحشد العراقي يقول ان لديهم نصف مليون رجل تحت السلاح في الجيش وفي الحرس الجمهوري.

اطلع أيضا على تقديرات لقوات المتطوعين: سواء من مقاتلي حزب البعث أو من فدائيي «صدام» أو من الحرس الوطني المحلي تشير إلى عشرات الألوف!

وتعليق «رامسفيلد»:

"ان هذه الأرقام لا تعني شيئا لأنه ليس لدى العراقيين سلاح جوي يمكن أن يؤدي دورا فعالا، لديهم طائرات من 300 إلى ،350 لكننا اختبرنا كفاءة هذه الطائرات في مناطق الحظر الجوي شمالا وجنوبا في العراق وقد تأكدنا أنه ليست لديهم فرصة لمواجهة طيران حديث، طائراتهم كلها عجوزة ليس لدى طياريهم نوع التدريب اللازم لمواجهة طيراننا، ليست عندهم الوسائل الأرضية التي تخدمهم في أي معركة، وفي كل الأحوال فإنه يبدو واضحا أمامنا أن القيادة العراقية لا تريد دفع سلاحها الجوي إلى معركة يائسة بل تريد ادخارها، لأن هذه القيادة تحت وَهْم حاجتها للطيران تتمكن من السيطرة به على الداخل كما وقع في المرة الأولى (1991)".

استطرد:

"بالطبع ليست هناك قوة بحرية عراقية.

علينا فوق ذلك أن نلاحظ أن العراق في أي معركة قادمة سوف يكون داخل صندوق مقفول، لأن كل من حوله يقفون ضده: إيران في الشرق تركيا في الشمال سوريا والأردن في الغرب الخليج في الجنوب.

ميدان المعركة مغلق حولهم تماما، وهذه مسألة مهمة.

سوف نقرأ جميعا عن تحرك "ما يسمونه" الشارع العربي، ومعلوماتنا أن أي تحرك عاطفي في شوارع المدن العربية سوف يكون مما تقدر حكومات الدول العربية الصديقة أن تضبطه وتسيطر عليه.

نحن إذن في حالة تفوق كامل: بري جوي بحري فضائي وسياسي أيضا.

والعراقيون في حالة عجز وعُزلة كاملة سواء فيما عندهم أو فيما هو محيط بهم.

وهذه حقائق لا يصح أن تُنسى".

يواصل «رامسفيلد» كلامه:

"سؤالي الآن: هل نحن في حاجة إلى خطة من هذا النوع الذي جاءني منكم؟ جوابي مؤكدا بالنفي".

ثم جاء تعليقه بأن:

"أي جيش في العالم هو أول من يحس بنقط الضعف عنده، لأن الساسة يستطيعون خصوصا في العالم الثالث أن يتحدثوا كما يشاءون، لكنه حين تصل الأمور إلى نهاياتها ويصبح الاختبار الحاسم مرهونا بالقتال، فإن كل الأطراف تستطيع أن تدعي كما تشاء إلا القوات المسلحة.

وهو هنا (رامسفيلد) يريد أن يتحدث عن الجيش العراقي".

"التقديرات تقول انه 500 ألف في الجيش والحرس الجمهوري، ومعهم عشرات ألوف من المتطوعين، والسؤال المهم هو: ما هي مقدرة الفعل لدى هؤلاء جميعا؟

* أولا: هناك الجيش أو ما بقي منه، نحن نعرف يقينا أنه لم يتلق إضافات إلى سلاحه، ولم يجدد شيئا كان عنده، ومعنى ذلك أنه نفس المستوى الذي عرفناه سنة ،1991 مخصوما منه النصف أو أكثر.

* ثانيا: الحرس الجمهوري تلقى إضافات في السلاح من كوريا الشمالية، ومن الصين، ومن روسيا، ومن بعض الدول العربية، لكن ما حصل عليه محدود متخلف وكان الذين باعوه للعراقيين يريدون التخلص منه.

ما الذي يبقى؟:

جماعات المتطوعين من «الحزبيين» ومن «فدائيي صدام»، وهؤلاء يصعب قياس قيمة تأثيرهم إلا عند التجربة العملية، وفي ظروفها، لكن فعلهم، مهما كان، محدود. كذلك تقول مصادرنا!".

يواصل «رامسفيلد» (وفق شهادة المصدر الذي نقل عنه) داعيا المشاركين في الاجتماع معه إلى النظر بدقة أكثر في أحوال القوات العراقية: الجيش والحرس.

ودخل «رامسفيلد» عميقا في تحليل أوضاع الاثنين (الجيش والحرس)، وعماد تحليله أن أي قوة في مثل هذا الوضع الحرج لا تستطيع أن تقاوم بكفاءة إلا إذا وجدت مددا معنويا يلهم تشكيلاتها وأفرادها حتى درجة الموت أو حافة البطولة.

وقرر «رامسفيلد» "أنه يصعب عليه تصور وجود مثل هذا المدد المعنوي لدى القوات العراقية النظامية سواء في الجيش أو في الحرس الجمهوري ومضى يشرح رأيه، ومؤداه أنه "في المرة الأولى أثناء حرب الخليج بين العراق وإيران كان دافعَ الحرب المعنوي تناقض تاريخي قديم بين العرب والفرس، يرجع إلى أيام كانت الإمبراطورية العثمانية (السنية) تواجه الإمبراطورية الفارسية (الشيعية)، ومنذ ذلك الوقت وهناك بين إيران والعراق ثأر نائم، لكنه جاهز كي يستيقظ في أي وقت.

"وقد أيقظه صدام"!

وفي حرب الخليج الثانية حرب الكويت كان الجيش العراقي مدفوعا بالجائزة الكبرى لإقليم يعتقد كثيرون في العراق أنه جزء من وطنهم، كما أنه مخزن كنز عظيم.

أما في المرة القادمة فما الذي يمكن أن يحرك الجيش العراقي؟!".

أفاض «رامسفيلد» في الشرح:

في العادة فإن الجيوش يحركها الدافع الوطني لاستقلال بلادها، لكن الجيش العراقي وكذلك الحرس يعرفان من الحقائق ما هو أكثر.

يعرفان أن منطقة الحظر الجوي في الجنوب أخرجت جنوب العراق فعلا من مسؤولية الجيش، ثم إن الشمال تقوم فيه الآن إدارتان كرديتان لكل منهما استقلالها الذاتي، وإذن تبقى منطقة الوسط وحدها تحت سيطرة النظام وهذه المنطقة هي ثلث البلد، وهي الثلث الفقير لأن الثروة النفطية للعراق موزعة بين الجنوب (الشيعي حول البصرة) والشمال (الكردي حول كركوك).

ويزيد ان الجيش العراقي يعرف تماما أن الثروة النفطية لشعب العراق لم تعد ملكه، لأن قرارات الأمم المتحدة بفرض الحصار مبكرا عليه (13 أغسطس/ آب 1990) حجزت على النفط، ثم سمحت للعراق بتصدير جزء محدود منه على أساس برنامج النفط من أجل الغذاء، والبرنامج كله في يد الأمم المتحدة، فهي التي تحصل على العائدات، وهي التي تصرح بالعقود، وهي التي تجنب نصيبا منه لتعويضات الحرب، وتقتطع نصيبا آخر للنفقات الإدارية لهيئاتها وبعثاتها العاملة في العراق، وبينها هيئة التفتيش على أسلحة الدمار الشامل.

وإذن فإن الأرض العراقية مكشوفة، والنفط العراقي مصادر، والسيادة العراقية منزوعة.

وإذا لم يكن هناك تراب وطني وإذا لم تكن هناك ثروة وطنية وإذا لم تكن هناك سيادة وطنية فمن أجل أي شيء يحارب الجيش العراقي ويضحي ضباطه وجنوده بحياتهم في معركة يعرفون أنها يائسة إذا دخلتها الولايات المتحدة بقوتها.

ليست مسألة شجاعة، لأن الشجاعة لا تكون إلا دفاعا عن مبدأ أو عن سيادة.

في هذه الحالة الراهنة ليس أمام الجيش العراقي مبدأ، وإنما هناك حزب وهناك مجموعة حكم وهناك رجل واحد فقط.

في هذه الحالة كذلك لم تعد هناك سيادة عراقية على شيء: لا أرض ولا موارد.

هذه أوضاع لا يموت الجنود دفاعا عنها مهما كانت الأوامر الصادرة لهم.

طبقا لكل معلوماتنا فإن الجيش العراقي لن يحارب، ولن يشعر أحد من قادته في أعماقه أنه يخون وطنه إذا امتنع عن الحرب بالعكس سوف يشعر أي قائد عراقي أنه يخون جنوده إذا أمرهم بالقتال حتى الموت في هذه الظروف!

يواصل «رامسفيلد» (وفق شهادة المصدر الذي نقل عنه):

قد يسألني البعض لماذا نرى الجيش والحرس حتى هذه اللحظة متمسكين بالولاء للنظام، وردي أن ذلك لا تفسير له إلا:

1- قسوة إجراءات الأمن الداخلي ووجود مندوب حزبي في كل وحدة يمنع أي «جنرال» من مُفاتَحة زملائه أو مساعديه بما يدور في عقله وضميره.

2- القوات العراقية معزولة عن أي اتصال خارجي، وهنا فإن قادتها لا يعرفون كيف يتصرفون على فرض أنهم وجدوا فرصة للقيام ضد النظام.

3- هناك سبب أهم هو ما يظهر لنا أحيانا من أن معظم جنرالات الجيش العراقي الحاليين ليسوا واثقين من أن الولايات المتحدة مصممة هذه المرة على شن الحرب والمضي فيها حتى إسقاط النظام، وهم إلى هذه اللحظة وفق معلوماتنا من الداخل يتصورون إما أننا غير معنيين وإما أننا نفضل بقاء «صدام» في السلطة شبحا نخيف به بقية دول الخليج وإما أننا غير جادين لا نريد أن ندفع تكاليف تغيير النظام أو أننا سوف نتعثر في النهاية أمام عقبات دبلوماسية تثيرها دول مستفيدة من الوضع الحالي في العراق (روسيا أو فرنسا مثلا).

استطرد «رامسفيلد» (وفق ما نقل المصدر):

هذه النقطة الأخيرة هي البداية التي يلزم أن نبدأ منها: كيف نقنع جنرالات الجيش العراقي والحرس الجمهوري بأن الولايات المتحدة قررت هذه المرة بشكل قاطع ونهائي أنها سوف تضرب بكل قوتها.

كيف نفعل ذلك هذا هو السؤال؟

هناك مدرستان في الإجابة عنه:

إما أن نحشد قوة هائلة على طريقة حرب الخليج التي سبقت، ثم نخوض حربا نمزق فيها الجيش العراقي تلك هي المدرسة الأولى، ولست (رامسفيلد) من أنصارها.

وإما "وهذه هي المدرسة الثانية التي أعتقد بصحة منهاجها وذلك بإشهار موقفنا بأسلوب تركيز قوة التأثير النفسي وتركيز قوة النار وتركيز قوة الحركة السريعة".

بمعنى أن فصل الخطاب يكون بضربة «صدمة ورعب» يفهم منها الجيش العراقي ويستوثق أننا نقصد ما نقول، ومصممون على تنفيذه، وقادرون من أول لحظة على قطع رأس هذا النظام (وكانت تلك أول مرة يُذكر فيها تعبير قطع الرأس «Decapitate»، قد أصبح هذا الوصف فيما بعد اسما رمزيا للمرحلة الأولى من الحرب على العراق).

استطرد «رامسفيلد»:

لابد أن تكون ضربة قطع الرأس عنيفة إلى درجة ترغم الجنرالات في الجيش وفي الحرس على النظر إلى الحقيقة في وجهها بحيث يعرفون أنه لم تعد هناك فائدة، وأن دعاوى الشجاعة انتحار، وأن إلقاء السلاح ليس خيانة، لأن الأهداف الوطنية ضائعة من الأصل، ولأن ما بقي من النظام لا يستحق الموت في سبيله.

سوف أضيف ملاحظات أخيرة لابد من اعتبارها، وأنتم تعيدون النظر في الخطة:

لا نريد أن نضرب المدنيين في العراق، لأنه يهمنا أن نؤكد لهم أننا نقصد النظام ولا نقصدهم.

ولا نريد تخريب المرافق العامة، لأننا سوف نستعملها بعد سقوط النظام ودخول العراق، وليس منطقيا أن نهدمها اليوم ونعيد إصلاحها غدا.

وإضافة إلى ذلك لا نريد تدمير الجيش العراقي، لأننا قد نحتاج إلى بعض تشكيلاته وأفراده لحفظ الأمن وضبط استقرار الأوضاع بعد سقوط النظام.

كان رؤساء أركان الحرب ومستشاروهم يسمعون في صمت يريدون أن يصلوا إلى السطر الأخير المهم في كشف الحساب وقد وصل إليه «رامسفيلد» فعلا وقال (طبقا لشهادة المصدر الذي نقل عنه):

ما أتصوره هو حرب ذكية ورشيقة

(Smart and Lean)، ولا تحتاج عملية من هذا النوع إلى أكثر من ثلاث فرق وليس ثلاث عشرة فرقة كما تفترض الخطة 1003 (التي قدمتها له رئاسة أركان الحرب المشتركة).

 فرقتان تزحفان من الخليج إلى جنوب العراق دون تهديد تخشيانه، لأن مهام الحظر الجوي في المنطقة أكدت لنا تردي أحوال وأوضاع القوات العراقية.

فرقة واحدة في الشمال، مع فرقة إضافية من الجيش التركي، ووحدات كافية من «البشمرجة» (القوات الكردية) للزحف على «الموصل».

ضربة أولى بالصواريخ “لقطع الرأس” وتأكيد الرسالة بحيث يفهمون "أننا مصممون إلى النهاية".

وتكثيف صاروخي وجوي من قواعدنا في المنطقة وبواسطة أربع أو خمس حاملات لا يترك للعراقيين وقتا ليفكروا في شيء آخر.

وعلينا في النهاية أن نتذكر ما يؤكده لنا أصدقاؤنا من أن القوات الأمريكية الزاحفة سوف تجد حولها ووراءها وربما قبلها كتلا من الجماهير العراقية تنقض على النظام عندما توقن أن لحظة الخلاص قد دنت.

وسكت «رامسفيلد» ونظر حوله وبدأت المناقشات.

وكان مدار المناقشات أن ما قاله وزير الدفاع مفهوم ومنطقي، لكنه بالدرجة الأولى يعتمد على افتراضات، وشأن أية افتراضات، فهو قابل لأن يكون صحيحا، وقابل في نفس الوقت ألا يكون، وهذا أساس يصعب أن تبنى عليه خطط عسكرية تمس مصالح حيوية للولايات المتحدة، في الشرق الأوسط وهو منطقة مجهودها الرئيسي سابقا ولاحقا في إطار مشروعها العالمي المطروح الآن للتنفيذ.

والعنصر الحرج فيما عرضه وزير الدفاع هو حجم القوة التي اقترح الوزير تخصيصها للخطة، ذلك أن التقدير المبدئي لهيئة أركان الحرب المشتركة أن هذا الحجم غير كاف، لا لضمان النجاح ولا للحفاظ على الهيبة، وكذلك فإن هناك اعتبارين إضافيين:

حجم القوات ليس كافيا لإقناع البلدان التي سوف تنطلق منها قوات الغزو (في الخليج) بأن النصر مضمون، بحيث تطمئن هذه البلدان وتتعاون دون تحفظ.

ثم إن حجم القوات على هذا النحو ليس كافيا لتوفير احتياطي حاضر على الأرض لدخول المعركة فورا إذا ظهر أن الافتراضات التي قامت عليها الخطة تحتاج إلى تعزيز.

ورد وزير الدفاع موجها كلامه مباشرة إلى الجنرال «تومي فرانكس» (قائد المنطقة المركزية المسؤولة مباشرة عن غزو العراق): "إن ما قام بعرضه على المشاركين وكبار القادة في هذا الاجتماع هو بالدرجة الأولى محاولة في لفت النظر إلى أننا أمام واقع جديد يقتضي تفكيرا متجاوزا للمألوف جريئا يتعدى التصورات التقليدية التي لم يعد لها الآن لزوم بسبب مستجدات هائلة دخلت على فكرة «إدارة الحرب». وهناك أيضا مسألة لابد أن تأخذوها في الاعتبار مؤداها “أن هناك ظروفا اقتصادية وتشريعية لا تسمح للرئيس بأن يذهب إلى الكونجرس مسبقا في طلب اعتمادات تثير وساوس أعضائه وتستنفر قلق الرأي العام عندما يشيع الإحساس بأن المعركة القادمة باهظة التكاليف".

وعلى أي حال فإن ما يطلبه الآن من القادة “أن يعيدوا النظر في تقديراتهم، ويعاودوا التخطيط «آخذين في اعتبارهم مجمل ما عرضه عليهم».

وحين تسربت بعض التفاصيل مما جرى في هذا الاجتماع أحست العاصمة الأمريكية أن «البنتاجون» عادت إلى منطقة الزلازل مرة أخرى بعلاقة مشدودة بين مكتب وزير الدفاع وبين هيئة أركان الحرب المشتركة، (مع ملاحظة أن بعض القادة بدا لديهم استعداد لتجربة نظرية «رامسفيلد» التي طلع بها الآن، حتى لو اختلفت مع نظرية «باول» التي استقر قبولها حتى الآن).

ثالثا: افتتاحية الحرب: معركة سياسية مع أوروبا

استنتاجات

طوال شهور صيف سنة 2002 لم يكن ما يجري في واشنطن خافيا على عواصم العالم الكبرى (والصغرى أيضا)، وربما أن بعض التفاصيل كانت غائبة، لكن الخطوط العريضة للنوايا الأمريكية بدت واضحة، كما بدا واضحا أيضا أن العراق ليس الهدف النهائي لمشروع أمريكي إمبراطوري، لكنه افتتاحية البداية. والحقيقة أن جماعة المشروع الإمبراطوري الأمريكي لم يبذلوا جهدا في تغطية مطالبهم، بل على العكس كشفوها ولعلهم أرادوا استجلاب التأييد ب "دغدغة" أعصاب أطراف داخل الولايات المتحدة، خصوصا في مجالات الإعلام والنشر، وبالفعل فإن قوى كثيرة راحت ترى أن اللحظة قد حانت للجهر علانية بالحلم الإمبراطوري وتثبيته وفرضه.

وفي «موسكو» و«باريس» و«برلين» وحتى في «بكين» (التي أبدت إيثارا للعزلة) سرى شعور بالقلق والتوجس من المشروع الأمريكي الإمبراطوري ومن أسلوب تنفيذه، وبدا مؤكدا أن الدورة الجديدة للأمم المتحدة وموعدها سبتمبر (2002) ستكون موقعة صاخبة، لأن الولايات المتحدة سوف تحاول من خلال الجمعية العامة ومجلس الأمن أن تمهد لتحالف دولي يقف معها شكليا في شن حرب على العراق، لكنها في القصد الحقيقي تسعى لكي تنتزع من الأمم المتحدة تفويضا يضفي الشرعية الدولية على تصرفها في العراق (كيفما تشاء).

وكانت العواصم الأوروبية الكبرى تلك اللحظة تجري حساباتها عارفة أنها مقبلة على لحظة حرجة ومحيرة، فهذه العواصم لا تريد لأمريكا أن تنفرد، وفي نفس الوقت لا تريد لأمريكا أن تنعزل، ومع أن العواصم الأوروبية الكبرى وأولها «باريس» و«برلين» تدرك أنها لم تعد في حاجة إلى المظلة النووية الأمريكية التي تحميها فإنها في نفس اللحظة ليست مستعدة لعواقب انقسام في الغرب الذي مازال يعتبر أن الاقتصاد الأمريكي والتكنولوجيا الأمريكية والقوة الأمريكية بعموم هي قاطرات النمو في العالم، وعليه فليس في مصلحة أوروبا أن تتصادم مع إدارة أمريكية مستفزة أو غاضبة.

وقد زادت الهواجس في «باريس» و«برلين» عندما أعلن في أواخر شهر أغسطس (2002) أن الرئيس «جورج بوش» سوف يحضر بنفسه افتتاح دورة الجمعية العامة، ويلقي خطابا هاما حول أزمة العراق.

ثم أعلن في نفس الوقت أن رئيس وزراء بريطانيا «توني بلير» سيقضي عطلة نهاية الأسبوع في «كامب دافيد» لخلوة مع الرئيس الأمريكي وحدهما فيما وُصف بأنه: «قمة قرار».

وتأكدت «باريس» و«برلين» و«موسكو» أن «توني بلير» قرر أن يلقي الورقة البريطانية في نفس المربع مع «جورج بوش».

معلومات

ولم يكن القرار سهلا في «لندن»، فالفكرة الإمبراطورية هناك قديمة استهلكت نفسها ولم يبق انتظار نفع منها أو حنين، وخطط السلاح والغزو ثقيلة على الرأي العام البريطاني، خصوصا إذا كانت بالشراكة مع الولايات المتحدة، لأنها فيما سبق من التجارب شريك صعب يريد أن يحصل على كل شيء ولا يترك لشركائه بعده كثيرا أو قليلا.

ومبكرا ووسط أسابيع الصيف قبل أن يذهب «بلير» إلى لقائه مع «بوش» في «كامب دافيد» لقمة قرار قام رئيس الوزراء البريطاني بعملية استطلاع للرأي واسعة:

 دعا عددا من كبار مسؤولي شركات البترول وضمنهم بالتحديد أعضاء في مجلس إدارة شركة «داتش شل» (أهم شركات البترول الإنجليزية)، وسمع منهم جميعا دون استثناء تقريبا "أنهم لا يحبذون حربا في العراق، لأن ما بقي لهم من امتيازات في الخليج مأمون، وأية تغييرات على الوضع الراهن بالسلاح قد تأتي بمفاجآت مفتوحة العواقب، خصوصا إذا انتهت التغييرات إلى احتلال أمريكي عسكري للعراق، وهو أمر لا شك فيه إذا صممت الإدارة الأمريكية على خيار الغزو العسكري".

 والتقى «توني بلير» مع عدد من كبار قادة حزب العمال، وكان معظمهم يعارض الحرب لأسباب عملية وقانونية وأخلاقية، وكان أخطر ما سمعه رئيس الوزراء البريطاني ما ذكره له صديقه القديم وزير خارجيته السابق وزعيم الأغلبية بمجلس العموم الآن «روبين كوك»، وطبقا لرواية «روبين» نفسه فإنه قال لصديقه «توني»:

"إنه في دهشة من مقولة أن العراق يملك أسلحة دمار شامل، وأن تجريده من هذه الأسلحة المدمرة هو المبرر القانوني والأخلاقي للغزو.

فهو يعلم أن العراق كانت لديه مثل هذه الأسلحة في حرب الخليج التي سبقت قبل 11 سنة لكنه مقتنع بأنها لم تعد موجودة الآن، والأسباب متعددة:

العراقيون لم يستعملوا هذه الأسلحة في الحرب السابقة (1991)، لأنهم أدركوا أن عواقب استعمالها كارثية بعد أن تلقوا إنذارا بأن الرد على استعمالها سيكون ضربهم بالقنابل الذرية.

 وبعد الحرب وعندما صدر قرار تشكيل لجنة «أونسكوم» برئاسة «ريتشارد بتلر» التي ذهبت للتفتيش على أسلحة العراق ونزعها، فإن العراقيين بادروا إلى تدمير معظم ما لديهم من هذه الأسلحة، ثم إن لجنة التفتيش السابقة «أونسكوم» قامت بتدمير الباقي.

وعلى فرض أن العراقيين أخفوا أشياء وذلك ما تقول به التقارير فإن الخبراء البريطانيين يقررون أن هذه الأنواع من الأسلحة لها مدة صلاحية لا تعود نافعة بعد انقضائها.

مدة صلاحية الأسلحة الكيماوية خمس سنوات.

ومدة صلاحية الأسلحة البيولوجية ثلاث سنوات.

وذلك معناه أن هذه الأسلحة حتى على فرض أن بقاياها مازالت موجودة لم تعد نافعة!

ومن المحتمل نظريا أن يسعى النظام في العراق إلى إعادة تصنيع وتعبئة الحمولات (الصواريخ والقذائف) الكيماوية والبيولوجية لكن المصانع التي يمكن بها تنفيذ ذلك وقع تدميرها، وهو «روبين كوك» واثق من أن العراقيين لم يتمكنوا من إعادة بناء وتشغيل هذه المصانع (لتجديد صلاحية أسلحتهم الكيماوية والبيولوجية)، وهو بنفسه كان يتابع هذا الموضوع عندما كان وزيرا للخارجية، بحكم تبعية هيئة المخابرات الخارجية (M.I.6) لوزارته، وقد كان يجتمع بالمسؤولين عنها مرة كل أسبوع، ولم يسمع ولم يقرأ ورقة واحدة تشير إلى إعادة بناء تلك المصانع أو تشغيلها، بل العكس فقد كان تقدير خبراء (M.I.6) أن النظام في العراق بعد أن أدرك عدم قدرته على استعمال هذا النوع من السلاح في حرب سنة 1991 وبعد اضطراره إلى تدمير ما لديه منها في أعقاب الحرب وبعد مجيء «الأونسكوم» لتكمل مهمة التدمير لم يعد حريصا ولا كانت لديه الوسائل اللازمة ولا الاستثمارات الفائضة ليعيد استيراد مصانع تعبئة يجدد بها أسلحة الدمار الشامل".

معلومات

(( والحاصل أن «روبين كوك» كان قريبا من الحقيقة بأكثر مما قدر، ذلك أن العراقيين عندما وجدوا أن صلاحية ما أخفوه من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية استنفدت صلاحيتها وجدوا أنفسهم أمام خيارات مستحيلة:

فهم لا يستطيعون تجديدها، وهم لا يستطيعون الاحتفاظ بها في حالة تآكل وتهالك، لأن بعض هذه الأسلحة (خصوصا في المجال البيولوجي) قابلة للتسرب بحركتها الذاتية، لأنها في الواقع من أنواع الجراثيم، ومعنى ذلك أن خطرها على الشعب العراقي بسبب التسرب يصبح أكثر احتمالا من خطرها على أي عدو مهاجم على الأقل باستحالة استعمالها.

وفي الحالتين فإن استمرار بقاء هذه الأسلحة في هذه الأحوال يعرض أمرها للانكشاف بواسطة بعثات التفتيش، وبالتالي يؤخر رفع العقوبات عن العراق.

وهنا وفي وقت ما بين 1994 1995 تقرر التخلص من تلك الأسلحة تماما والانتهاء من أمرها، مع الاعتماد على وجود ما يكفي من العلم بأمورها في عقول الفنيين وفي أوراق أبحاثهم)).

معلومات

واستطلع مكتب «توني بلير» آراء عدد من الرجال والنساء المؤثرين في اتجاهات الرأي العام وبينهم زعامات في الحركة النقابية، ولم يجد تأييدا واسعا لحرب على العراق بالشراكة مع الولايات المتحدة، ومن اللافت أن معظم التأييد الذي لقيه «بلير» جاء من أعداء تقليديين لحزب العمال وافقوه على ضرورة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل وكان بينهم «روبرت مردوخ» مالك مجموعة صحف «التيمس»، و«كونراد بلاك» صاحب مجموعة «التلجراف».

وفي نهاية المطاف فإن رئيس الوزراء ظل مقتنعا بأنه لا يملك خيارا غير «الالتحام» بالموقف الأمريكي ومنطقه قائم على عدة أسباب:

إن غزو العراق سوف يقع سواء شاركت بريطانيا أو امتنعت (ولهذا فالأفضل لها أن تشترك).

إن العمل الأمريكي القادم بالسلاح في منطقة الخليج العربي وهي منطقة من العالم مازالت تعترف ببقايا نفوذ إمبراطوري بريطاني (ولذلك يُستحسن أن تكون بريطانيا هناك).

إن أوروبا الغربية مازالت تشك في بريطانيا المترددة في اعتبار نفسها جزءا لا يتجزأ من القارة، فإذا زاد على الشك الأوروبي شك آخر أمريكي فإن بريطانيا تصبح في عُزلة كاملة عن كافة «القوى في العالم».

إن هناك مواريث ثقافية بحكم اللغة الإنجليزية على الأقل تربط بريطانيا مع الولايات المتحدة بعلاقة خاصة، ومن واجب بريطانيا أن تحرص على هذه المواريث، لأنها في النهاية تقبل الترجمة إلى لغة المصالح.

وهكذا في أوائل سبتمبر 2002 قام «توني بلير» بإبلاغ «جورج بوش» أنه يستطيع أن يعتمد على بريطانيا كائنا ما كان قراره، فذلك الحلف بين البلدين لا يتزعزع، ثم هو صداقة مبرأة من انتهازية الآخرين!!

إجتماع في مزرعة كراوفورد بين بوش وفرانكس لفك الاشتباك بين رامسفيلد ورئاسة الأركان

! رابعا: قرار وخطة الحرب

"يوم الخميس 12 سبتمبر/أيلول وقف الرئيس «جورج بوش» على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، يلقي بيانه المُنْتَظَر وكان ملخصه: “أنه إما أن يقبل العراق عودة المفتشين إليه للبت في موضوع أسلحة الدمار الشامل، والعثور عليها، والخلاص منها نهائيا مع بقاء نظام دائم للرقابة وإما أنها الحرب، وليس بين الاحتمالين مجال لحل وسط، كما أنه ليس مستعدا لسماع شروط، وإنما طلبه الوحيد هو الانصياع الكامل بلا قيد ولا تحفظ".

وفي اليوم التالي أعلنت الحكومة العراقية رفضها لطلب الرئيس الأمريكى، مؤكدة في الوقت نفسه أنها لا تملك أسلحة دمار شامل من أي نوع: لا نووية ولا كيماوية ولا بيولوجية.

والحقيقة أنه كان هناك شبه إجماع دولي على أن العراق فقد قاعدة إمكانياته النووية عندما قامت «إسرائيل» بتدمير مفاعله (أوزيراك) في غارتها الشهيرة عليه (ربيع 1981)، وكان كثيرون في العالم على قناعة بأن النظام في العراق توصل إلى أن الخيار النووي يتعدى قدراته الراهنة، وكان ذلك أيضا رأي لجنة الطاقة النووية، التي كان رئيسها في ذلك الوقت هو رئيس فريق المفتشين الجديد: الدكتور «هانز بليكس»، لكن منطقة الظل الرمادي ظلت قائمة إلى حد ما في مجال الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، لأن أمرها يحتمل الالتباس، خصوصا أن الرأي العام العالمي على مستوى المتابعة الإخبارية السريعة لا يتذكر أن هذه الأنواع من الأسلحة لها مدة صلاحية لا تتجاوزها إذا لم تتوافر وسائل تجديدها مرة أخرى!

وكان هناك أطراف دوليون على استعداد لتصديق العراق في نفيه لوجود أسلحة كيماوية وبيولوجية لديه، وكان بين هؤلاء الأطراف من أبدى استعداده لمواجهة سياسية في مجلس الأمن حول هذا الأمر مع الولايات المتحدة والشرط أن يقبل العراق بالتفتيش، باعتبار أنه إذا لم يكن لديه ما يخفيه فما الذي يخيفه من استقبال «بليكس» وفريقه في العراق وتمكينهم من أداء مهمة تكشف براءته بشهادة الخبراء؟

لكن النظام في العراق ظل يحاول أن يجد مخرجا، ولم تُجْدِ المحاولات، وبينها دعوة لـ «بليكس» إلى زيارة العراق «للتباحث في الموضوع»، وأعلن «بليكس» أنه يرفض الدعوة.

ولم تكن الولايات المتحدة راضية ولا كان لديها الوقت لتسمع، لأن اهتمامها كان من الأول للآخر محصورا في الخطط العسكرية، وزادت عليه تلك الخلافات التي احتدمت حولها داخل «البنتاجون» بين مكتب وزير الدفاع وبين هيئة رئاسة الأركان المشتركة، خصوصا عندما دخل الجنرال «تومي فرانكس» قائد المنطقة المركزية المكلفة بالحرب على الخط معتمدا على صداقة قديمة تربطه بالرئيس «جورج بوش».

معلومات

كان «جورج بوش» هو الذي دعا قائد المنطقة المركزية المكلف «بعملية العراق» إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع الثالث من شهر أغسطس/آب (2002) معه، في مزرعته (كراوفورد) في تكساس، وكان الرجلان وكلاهما من ولاية تكساس (كان «تومي فرانكس» من مواليد بلدة ميدواي تكساس) قد عرفا بعضهما من زمن طويل، ثم حدث أن علاقاتهما توثقت عندما تقابلا عدة مرات في فلوريدا، لأن «جيب بوش» شقيق الرئيس هو حاكم فلوريدا، وفلوريدا هي مقر قيادة قوات المنطقة المركزية (التي يقودها «تومي فرانكس»).

وقد سُئل الجنرال «فرانكس» وهو يغادر مزرعة الرئيس بعد الغداء يوم الأحد (25 أغسطس)، وكان رده على الصحافيين الذين سألوه:

"إنه جاء إلى هنا مع زوجته بوصفهما أصدقاء لأسرة «بوش»، وهو يعرف الفارق بين الاجتماعي والوظيفي، وهو لم يُفاتح الرئيس مبتدئا في شيء لأنه لا يستطيع أن يتكلم مع القائد العام بدون حضور وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان".

لكنه طبقا للذين يعرفون التفاصيل (بحكم مواقعهم) فإن «بوش» بالفعل أثار موضوع العراق، مبتدئا بقوله للجنرال «فرانكس»: "إنه يراجع الآن نص خطابه أمام الأمم المتحدة (بعد ذلك بثلاثة أسابيع)".

واتسع باب الكلام ووصل إلى مسألة الخلافات بين وزير الدفاع وهيئة أركان الحرب، وعندها اعتبر الجنرال «فرانكس» أن من حقه أن يشير إلى النقطة الحيوية بالنسبة له وهي حجم القوات المتاحة المخصصة لعملية العراق، وأبدى «فرانكس» أن وزير الدفاع حاول أن يتوصل خلال اجتماعات أخيرة إلى صيغة حل وسط مع هيئة أركان الحرب المشتركة، إلا أن الحد الذي عرضه لا يزال في تقديره (تقدير الجنرال فرانكس) دون الكفاية، ومع أن هيئة أركان الحرب تحاول بكل وسيلة أن لا تثير مشاكل مع الوزير ومعاونيه، فإن هناك مسائل معلقة لا يمكن أن يحسمها غير القائد العام (أي الرئيس نفسه).

كان «رامسفيلد» في تلك الاجتماعات قد وافق على قوة توازي ضعف ما كان عرضه أولا، أي قرابة مائة ألف جندي، ولم تكن رئاسة الأركان مع تقديرها لنظرية الوزير عن معركة تدور بأقصى سرعة وأقصى خفة -Fighting Fast and Fighting Light  تعتقد أن ما يعرضه «رامسفيلد» الآن يكفيها، وأبدى «فرانكس» أنه "فيما يتعلق به شخصيا كقائد مسؤول عن الحرب القادمة فهو يريد أن يساعد، ولكنه لا يريد أن يغامر، ولكي يسهل الأمور على الوزير ومعاونيه فإن ما يستطيع أن يساعد به هو تقليل مدة بقاء القوات في الميدان إلى أقصى حد ممكن، وهو لا يريد الآن أكثر من أن يطمئن على هياكل القوات وعلى خطوط إدارة العمليات، لكنه لا يريد وصول القوات إلى مسرح العمليات إلا قبل ساعة الصفر بأسابيع قليلة، هذا مع أنه لا يرغب في تدفق مكشوف للقوات على المسرح في آخر وقت".

وأبدى الجنرال «فرانكس» تقديره لأن القوات البريطانية أبلغته أنها سوف تسبق في الوصول إلى مواقع الحشد، لأن قواعدها جاهزة، ولأنها لا تريد زحاما في اللحظة الأخيرة يُحْدِث للحكومة حرجا سياسيا إذا بدت في موقف عناد مستفز للرأي العام البريطاني، وبالطبع فإنه مما يساعد البريطانيين على ذلك أن مشاركتهم محدودة بأربعة ألوية من المدرعات والقوات البرية والقوات الخاصة (ما بين خمسة وثلاثين إلى أربعين ألف رجل)، وذلك يريحه (الجنرال فرانكس) على نحو ما، لأن معناه درجة من الانتشار حول مسرح العمليات وعلى مداخله، خصوصا وهو شبه واثق أن العراق ليس بمقدوره أن يوجه ضربة استباقية للقوات حتى وهو يراها تحتشد أمامه. وطبقا لما لديه من معلومات فإن مواقع القوات العراقية لم تتغير خلال السنوات الأخيرة وهو أمر يدهشه، ثم إن التركيز الرئيسي لهذه القوات في الشمال يتوقع أن تكون الضربة الرئيسية في اتجاه «بغداد» مباشرة عن طريق كركوك (الموصل).

معلومات

[وثبت أن الجنرال «تومي فرانكس» كان دقيقا فيما أورده عن تحركات القوات البريطانية، لكن الذي تكشف فيما بعد هو أن القيادة البريطانية السياسية والعسكرية ورغبة منها في التستر على تحركات قواتها نحو العراق سبتمبر 2002 حرصت ألا تبعث بقوات إلى مسرح العمليات في الخليج من القواعد البريطانية ذاتها، بل آثرت إرسال تشكيلات من قواتها العاملة في ألمانيا تحت لواء حلف الأطلنطي، وكذلك بدا أن القوات التي تتحرك من الجزر البريطانية قاصدة إلى أوروبا (بالتوافق مع قوات بريطانية تغادر أوروبا في نفس الوقت إلى الخليج)، وإمعانا في الإخفاء فإن هذه القوات المتحركة من أوروبا إلى الخليج توجهت إليه في البداية دون عتادها بل ودون مهماتها، وقد ظهر عند التجربة العملية (وطبقا لتقرير صادر عن الجيش البريطاني أواخر شهر يونيو 2003 أي بعد انتهاء العمليات بثلاثة شهور) "أن فرقة المشاة الخفيفة الأولى شاركت في القتال حول البصرة بغير أسلحتها القتالية الثقيلة والعادية، وبغير ملابسها الصيفية، وبغير خوذات الميدان على رؤوس أفرادها، وبغير قنابلها اليدوية، وبغير مناظير الرؤية الليلية، وبغير حتى أحذية الصحراء".]

معلومات

وفي نهاية لقائه مع الرئيس «بوش» في مزرعة «كراوفورد» (تكساس) أبدى الجنرال «فرانكس» أنه سوف يسافر إلى منطقة قيادته ويغيب هناك فترة لا تزيد عن أسبوعين ثم يعود ومعه آخر صورة على الطبيعة، لكنه حتى ذلك الوقت يرجو الرئيس بوصفه القائد العام أن يهتم بقضية العلاقات بين هيئة رئاسة الأركان وبين وزير الدفاع وأعضاء مكتبه من المدنيين (وفي الغالب فإنه كان يشير إلى «بول وولفويتز» مساعد الوزير، و«ريتشارد بيرل» رئيس مجلس سياسات الدفاع)، “ذلك أن هذه العلاقة لاتزال خشنة، وتحتاج إلى عملية «تزييت» تجعلها «سلسة»".

وقبل أن يتوجه الجنرال «فرانكس» إلى مركز قيادته، دعاه نائب الرئيس «ريتشارد تشيني» إلى إفطار معه لأنه أراد أن يسمع منه مباشرة (وفي الغالب أن ذلك تم بطلب من الرئيس «بوش»).

وبعد أيام كان الجنرال «تومي فرانكس» في طريقه إلى المنطقة قاصدا أن يتفقد مركز قيادته في «قطر»،  ويحضر تجربة عملية لمراكز الربط بين القوات في الميدان ومع مركز الإدارة الجديدة لنقل المعلومات الفورية إلى مستوى «السرايا»،  بما في ذلك سرايا القوات الخاصة حيث تكون، وقد أنشئ لهذا الربط جهاز إدارة خاص، أدخل الفضاء عنصرا لأول مرة في الحرب وكان مقر ذلك الجهاز قاعدة خليجية.

متابعة

فجأة يوم الاثنين 16 سبتمبر أي بعد أربعة أيام من خطاب الرئيس «بوش» أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد ثلاثة أيام من رفض عراقي قاطع لعودة المفتشين الدوليين تلقى الأمين العام للأمم المتحدة تبليغا بأن الحكومة العراقية غيرت رأيها، وقبلت استقبال المفتشين الدوليين «هانز بليكس» وفريقه، وكذلك الدكتور «محمد البرادعي» (رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية).

وقام «دوفيلبان» (وزير خارجية فرنسا) بإخطار السكرتير العام للأمم المتحدة أن وزير خارجية العراق «ناجي صبري» سوف يطلب مقابلة في دقائق لينقل إليه رسالة حُسن نية، يعلن فيها نزول العراق على إرادة المجتمع الدولي وقبول تفتيش كافة منشآته وقواعده وأي مكان في أرضه، بما في ذلك القصور الرئاسية وبدون قيد أو شرط.

وكان ذلك منعطفا رآه معظم أعضاء مجلس الأمن باباً إلى انفراج الأزمة، وجرى التعبير عن ذلك فعلا في «باريس» و«موسكو» و«برلين».

لكن ردة الفعل في «واشنطن» بدت مستغربة، ومؤكدة لأسوأ مخاوف هؤلاء الذين تشككوا من البداية في النوايا الأمريكية مهما فعل العراق، لأن القضية لم تعد وجود أو عدم وجود أسلحة للدمار الشامل، وإنما القضية هي «الاستيلاء على العراق» وإسقاط النظام فيه واحتلال البلد.

معلومات

وبالفعل فإنه يوم الاثنين 23 سبتمبر ،2002 كان الرئيس «جورج بوش» يجلس في قاعة مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض ومعه نائبه «ريتشارد تشيني»،  وحول المائدة من ناحية جلس وزير الدفاع ومساعدوه، وعلى الناحية الأخرى جلس رؤساء هيئة أركان الحرب ومعهم مجموعة محددة من المستشارين فقد جاء الآن وقت عرض خطة العمل العسكري، وكان على رئيس الأركان الجنرال «ريتشارد مايرز» أن يشرح هيكلها العام، وبعده يجيء الدور على الجنرال «تومي فرانكس» قائد القيادة المركزية المكلفة بالحرب على العراق ليتحدث عن تفاصيل العمليات والتحركات.

شهادات

[وطبقا لرواية «بول وولفويتز» (مساعد وزير الدفاع) في شهادة مسجلة بصوته في حديث للملحق الأسبوعي لمجلة «نيويوركر» فإن “الاجتماع بدأ بملاحظات سريعة حول اتجاهات الرأي العام، بما فيها مظاهرات جرت في نيويورك، وتعليقات نشرتها الصحف، وتدخل الرئيس في المناقشة قائلا وهو يهز رأسه بأسف: "إن هؤلاء «الكُتاب اليساريين» لن يرضوا عني مهما فعلت"،  ثم راح يروي نكتة تشرح وجهة نظره، روى:

"ان بابا الفاتيكان كان ضيفا على عائلته في عطلة نهاية الأسبوع في «كينيبنكبورت» على شاطئ ماين، وأخذه هو (بوش) في نزهة بحرية في قارب سريع راح يشق الموج وسط الريح، وفجأة إذا بقوة الريح تخلع قبعة البابا وتقذف بها وسط الأمواج.

يستكمل «بوش» النكتة:

النكتة تقول إنني أوقفت القارب ونزلت إلى الماء ماشيا على سطح الموج واستعدت قبعة البابا وعُدت بها إليه.

الصُحُف في اليوم التالي لم تقل في عناوينها أنني حين مشيت على الموج قمت بمعجزة، لكن خرجت تقول:

"هذا الرئيس الغبي لم يتعلم درس السباحة، ولم يتقن فن العوم!".

واستطرد «بوش» معلقا:

"هذه النكتة لها معنى بالنسبة لي هو أن ليس علي أن أهتم بأي شيء يقوله هؤلاء المغرضون ومهما فعلت فإنني لن أعْجِبهم، ولا يهمني أن أعجبهم!"].

شهادات

كان وزير الخارجية «كولن باول» مشاركا في الاجتماع بوصفه عضوا في مجلس الأمن القومي، وقد قال لمستشارة الأمن القومي «كونداليزا رايس» قبل الاجتماع "انه سوف يقلص تدخله عند مناقشة الشؤون العسكرية إلى أقصى حد، لأنه يقدر أن ذلك الآن ليس اختصاصه، ثم إنه يريد للاجتماع أن يكون «مناقشة عسكرية راهنة» معلقة بهذه اللحظة وليس بما قبلها، وفي إطار ما يراه المسؤولون عن تنفيذها وليس في أي إطار آخر. وفيما بعد أشار «كولن باول» إلى أن ذلك الاجتماع كان من أصعب ما شارك فيه، "فهو بحكم تجربته يعرف أكثر من آخرين، لكنه بحكم مسؤوليته الحالية يرد نفسه". وقد سمع أثناء المناقشات إشارات إلى آرائه التي شكلت الإستراتيجية الأمريكية العسكرية خلال السنوات العشر الأخيرة لكنه برغم ذلك منع نفسه من التعليق، وإن اضطر للتدخل عدة مرات خلال المناقشة حتى لا يثير حساسيات أو مشاكل جانبية".

[ روى «كولن باول» هذه التفاصيل في إطار جلسات مخصصة لتسجيل سريع لوقائع وانطباعات حية لا تزال في ذاكرة وناظرة أصحابها، وذلك أسوة بما فعله الرئيس «جون كنيدي» أيام أزمة الصواريخ، إذ أمر بتسجيل كل اجتماعات مجلس الأمن القومي بالصوت والصورة أثناء وقوعها لكي يمكن الإمساك بالتاريخ حيا «مرئيا ومسموعا».]

معلومات

كان ذلك الاجتماع في 23 سبتمبر (2002) هو الفرصة التي تمكنت فيها هيئة الأركان المشتركة من إقناع الرئيس بزيادة حجم القوات المخصصة للعملية، بحيث زادت من حدود الخمسين ألفا التي اقترحها «رامسفيلد» في البداية، إلى حدود مائة ألف التي قبل بها كحل وسط مع هيئة الأركان إلى مائة وخمسين ألفا في حضور الرئيس، وبعد ذلك عرض الجنرال «تومي فرانكس» العائد لتوه من منطقة الحرب القادمة تقريره عما لاحظه.

وكان إطار الخطة المعروض في الاجتماع (طبقا لتقرير أعده «مركز دراسات الأمن العالمي» برئاسة الجنرال المتقاعد «جون بيت») على النحو التالي:

- 9 قواعد في منطقة العمليات وحولها، منها سبع في سبع دول عربية، واثنتان إحداهما في تركيا والثانية في جزيرة «دييجو جارسيا» (يحدد التقرير الأصلي مواقع هذه القواعد في الدول العربية، ولم أشأ أن أنقلها في هذا الحديث حتى لا يتصور طرف أن إحراجه مقصود).

- 6 حاملات طائرات تتواجد في المنطقة على أهبة الاستعداد للاشتراك في العمليات، تتوزع من الخليج إلى البحر الأحمر إلى المحيط الهندي.

- 4 مناطق حشد للقوات المتقدمة على الأرض من ثلاثة بلدان عربية، واحدة منها تُخَصصْ لتحركات القوات الخاصة الأمريكية ومبكرا قبل ساعة الصفر بأسابيع.

 حجم القوات المشاركة في العملية:

- 7 - 8 فرق أمريكية (حوالي مائة وخمسين ألف رجل).

- 4 ألوية بريطانية (ما بين 35 إلى 40 ألف رجل).

- فرقتان من الجيش التركي (بحجم خمسين ألف رجل).

-  قوات خاصة غير نظامية تابعة لفرق عراقية معارضة:

15000 من قوات الحزب الديمقراطي الكردي (مسعود برزاني).

10000 من قوات الحزب الوطني الكردستاني (جلال طالباني).

6000 قوات شيعية (تابعة لجماعات معارضة).

5000 قوات تابعة لأحزاب عراقية في المنفى، وقد توجه بعضها للتدريب في معسكر خاص في المجر.

وكان تقدير التحركات (طبقا لنفس التقرير الذي وقعه «جون بيت») كما يلي:

- 10 أيام لحشد المعدات في مواقع الهجوم.

- 10 أيام لدخول القوات إلى الخطوط استعدادا لساعة الصفر.

- 10 أيام للوصول إلى بغداد وتجاوز المدن دون خشية، لأن أي محاولة عراقية لقطع الخطوط يمكن تثبيتها والقضاء عليها بالطيران.

وكان هناك اتفاق عام على أن الخطة يمكن تنفيذها في هذه التوقيتات، ولم تكن هناك خشية من حرب على نطاق واسع في المدن، لأن هذا النوع من الوقفات الباسلة (على طريقة ستالينجراد وليننجراد) فات وقته، وأنهته أسلحة الصواريخ والليزر والقنابل العنقودية.

وكان المنطق الرئيسي للخطة هو أنه عندما تبدأ «ضربة الصدمة والرعب» الأولى وتشعر القوات العراقية (الجيش والحرس) أن الموضوع جد لا هزل فيه، وأن القتال إلى النهاية محتوم وفي ظروف ينعدم فيها التوازن بين الطرفين المتحاربين، وفي غيبة هدف وطني يستحق التضحية فإن هذه القوات لن تخوض معركة يائسة من أجل لا شيء. لأن العسكريين يموتون في المواقع دفاعا عن وطن، وأما إذا ضاع الحافز الوطني فأي عسكري يعرف أن التضحية بالدم انتحار لا فائدة منه، ثم إنه لا يسجل تاريخا لأن دافع المبدأ وداعي الوطنية وراءه ضائع.

وكانت كل المعلومات الواردة من الداخل خصوصا بواسطة شبكة استطلاع تصغي إلى كل همسة تجري في القواعد العراقية والمعسكرات تزكي الافتراض الأمريكي بأن الحرب سوف تكون بالفعل سريعة وخفيفة عنيفة وقاسية في نفس اللحظة.

ويوما بعد يوم ساعة بعد ساعة كانت الخطة العسكرية تتكامل، بينما انتقلت بؤرة الحركة إلى الساحة السياسية: واشنطن ونيويورك ولندن باريس وموسكو وبرلين، وتصادمت وتراشقت السياسات والمواقف والبيانات والتصريحات ألسنة لهب (بارد!) تشتعل وتنطفئ ثم تعود إلى الاشتعال مرة أخرى".

! خامسا: قوة الشرعية أو قوة السلاح

متابعة

"كانت الصورة في مجلس الأمن فوضى عارمة، فالمعلومات الواردة من واشنطن إلى نيويورك تكشف للوفود جميعا أنه برغم استعداد العراق لقبول عودة المفتشين إليه لاستئناف مهمتهم بلا قيد ولا شرط (حتى في القصور الرئاسية) فإن الولايات المتحدة وبريطانيا تقومان الآن بالتعطيل بادعاء عدم الجدوى، لأن النظام في العراق لم يقبل بعودة فريق المفتشين إلا بعد أن تمكن من إخفاء ما لديه من أسلحة الدمار الشامل.

وفي أوائل أكتوبر كان الملحقون العسكريون لسفارات فرنسا وروسيا وألمانيا في واشنطن يحضرون يوميا إلى نيويورك لإحاطة وفود بلادهم علما بمدى تقدم الاستعدادات للحرب، وبتصميم الرئيس الأمريكي على إسقاط النظام في العراق واحتلال البلد، وباعتبار أن الولايات المتحدة وبريطانيا لديهما من الذرائع ما يكفي دون حاجة لقرار من مجلس الأمن تصدره وفود لا تعرف ما فيه الكفاية، وتعبر عن حكومات ليست معنية بغير ما يمسها مباشرة ثم إن معظمها حكومات لا تنوي المشاركة مهما كان في العمليات العسكرية المقبلة، لأنها مرتبطة مع النظام العراقي إما بمستحقات ديون تنتظر تحصيلها، وإما بعقود استغلال للبترول آجلة تتمسك بها ولا يضمن تسليمها غير النظام الحاكم في العراق الآن.

وبدا أن المواجهة السياسية في نيويورك تجري على عدة مستويات:

 مستوى وفود الدول الكبرى في مجلس الأمن، ومعها الأمانة العامة للأمم المتحدة، وطلب هؤلاء المُلِحْ إعطاء المفتشين الدوليين تفويضا من مجلس الأمن يمنحهم سلطة فوق حكومة العراق ذاتها.

 ومستوى آخر شعبي تولاه فكر وإعلام مستنير خصوصا في أوروبا، وساندته قطاعات ضخمة من الرأي العام الدولي حتى في الولايات المتحدة لأن الكل بدأ يرى نوايا العدوان ظاهرة وبادر إلى إدانتها، بظن أن في الإمكان إيقاف العملية قبل أن تدور تروسها!

ومستوى ثالث من المواجهة حشدت فيه الإدارة الأمريكية أقطابها من الإمبراطوريين الجُدد صروحا من الصخر لا تتأثر، وتطل على ما ترى أمامها وتسمع دون استجابة، وبدا أنه عناد تحكم في العقل، وأنه غرور القوة وآخذ أصحابه إلى منتهاه.

شهادات

على أن قصارى ما كانت الإدارة في واشنطن على استعداد له هو إلحاحها المستمر على امتلاك معلومات سرية عن أسلحة الدمار الشامل كيماوية وبيولوجية (وربما نووية أيضا) يملكها العراق، ومن المدهش أن وكالة المخابرات المركزية في ذلك الوقت كانت أول من يشكك في صدق المعلومات التي تدعي الإدارة الأمريكية بامتلاكها.

وحدث بالفعل أن السكرتير العام للأمم المتحدة «كوفي أنان» انتهز فرصة لقائه مع المندوب الأمريكي الدائم السفير «جون نجروبونتي»،  وسأله إذا كان ممكنا وبصفة شخصية وسرية أن يحصل على ملخص معلومات من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يؤكد امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.

وكانت هناك سوابق لمثل هذا الطلب في مناسبات سابقة حين أرادت واشنطن أن تكون الأمانة العامة للأمم المتحدة على علم بدواعيها في تصرف معين أو ظرف طارئ، وفي تلك المناسبات السابقة تلقى الأمين العام بصفة شخصية ملخص معلومات وفي بعض الأحيان جاء إلى مكتبه مندوب خاص من الوكالة يقدم له مباشرة «إيجازا» يحوي ما يلزم له أن يطلِع عليه.

ومع أن المندوب الأمريكي الدائم السفير «جون نجروبونتي» وعد «كوفي أنان» بنقل طلبه إلى واشنطن، إلا أن السكرتير العام للأمم المتحدة لم يتلق ردا، وقد يئس من تلقي الرد عندما شاعت في أروقة مجلس الأمن (نقلا عن المُلْحَق العسكري لإحدى القوى دائمة العضوية في المجلس) روايات مؤداها "أن وكالة المخابرات المركزية اضطرت إلى عقد صفقة تراضي مع المجموعة الإمبراطورية في الإدارة، وبمقتضى الصفقة تسكت الوكالة وتكتم شكوكها وفي المقابل فإن الآخرين يسكتون ويكتمون على إهمال الوكالة وتقصيرها في شأن حوادث 11 سبتمبر 2001".

متابعة

في الوقت نفسه كانت رئاسة الوزارة البريطانية منهمكة في عملية «دعاية سوداء» مماثلة، فقد أصدر مكتب «توني بلير» رئيس الوزراء «بيان معلومات» لما تملكه الحكومة البريطانية من أدلة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وأحدث ذلك البيان توترا ملحوظا في «هوايتهول»،  داعيه أن أجهزة المخابرات المسؤولة وفيها جهاز المخابرات الخارجية  M.I.6)) راحت تسرب معلومات بأن ما أذيع عن طريق مكتب رئيس الوزراء لم يكن من عندها، وإنما جاء من مصادر أخرى لا يعلمها غير مكتب رئيس الوزراء، لأن ما لديها هي ( M.I.6 ) يتناقض مع ما صدر رسميا عن مكتب «توني بلير»،  ووصل الأمر إلى حد أن بعض المسؤولين في جهاز المخابرات اتصلوا فعلا في سابقة قل نظيرها بأعضاء في الوزارة (منهم وزيرة التعاون الدولي «كلارا شورت» وفق روايتها) كي يبرئوا ساحتهم من مسؤولية هذه المعلومات وما قد يترتب عليها من عواقب.

يوم 7 أكتوبر (2002) وكانت عملية المواجهة السياسية تتطور بسرعة دفع الرئيس «جورج بوش» عجلة الحوادث إلى الدوران أسرع بإعلانه في بيان للأمة الأمريكية "أن صدام حسين يستطيع مهاجمة الولايات المتحدة أو حلفائها الأقربين بأسلحة الدمار الشامل في أي «يوم يختاره»،  وأن إدارته سوف تؤدي الواجب العاجل المفروض عليها لمواجهة أسوأ الاحتمالات".

وطلب الرئيس «بوش» تفويضا من الكونجرس باستعمال القوة المسلحة إذا وجد ذلك ضروريا، وبالفعل حصل على هذا التفويض يوم 11 أكتوبر (2002)، وفي ظرف ساعات كان وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» يطلب من هيئة أركان الحرب المشتركة أن تتحرك مجموعة الجيش الخامس وفرقة جنود المارينز الأولى إلى منطقة الخليج.

وفي هذه اللحظة (منتصف أكتوبر 2002) وقع «إشكال من نوع ما» لا يستطيع أحد أن يقطع في تفاصيله، بين مكتب وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» وبين هيئة أركان الحرب المشتركة وعلى رأسها الجنرال «مايرز».

كان الإشكال فيما يبدو متصلا بصياغة التوجيه السياسي إلى القوات المسلحة بشن الحرب على العراق.

كانت العلاقات من الأصل متوترة بين وزارة الدفاع وبين رئاسة أركان الحرب، والأسباب معروفة:

 فيها رغبة وزير الدفاع الجديد في وضع العسكريين في مكانهم الصحيح بعد نوع من «الشرود» زمن إدارة «كلينتون» (كذلك تقدير «رامسفيلد»).

 وفيها نوعية الرجال الذين جاءوا مع «رامسفيلد» إلى وزارة الدفاع وأحاطوا به معتبرين أنفسهم خبراء في الإستراتيجية، ولهم مشروع إمبراطوري عالمي شامل.

وفيها اعتقاد الوزير ورجاله بأن المؤسسة العسكرية الأمريكية (جنرالات «كلينتون») ترهلوا وفقدوا شهية القتال، وأعفوا أنفسهم من مسؤوليته.

وفيها خلاف «رامسفيلد» مع عقيدة «باول» التي حددت شروطا لاستعمال القوة، تقوم على أساس أن ظهور تفوقها قد يغني عن استعمال سلاحها.

وفيها ما وقع خلال التحضير لعملية العراق من خلافات حول حجم القوات الضرورية لتنفيذها.

وفيها أيضا ما يتصل بالخطوط الإستراتيجية العامة التي يقترحها «رامسفيلد»،  والتي تعتمد على ضربة أولى بالصدمة والرعب، يعقبها تقدم سريع مباشرة إلى بغداد دون اهتمام كبير بتأمين المؤخرة والحفاظ على خطوط المواصلات والإمداد وتأمينها.

والآن وإزاء كل ما كان يجري في «واشنطن» و«نيويورك» و«لندن»،  وفي «باريس» و«موسكو» و«برلين» فإن رئاسة القوات عاودها ما استوجب «إشكالا» «من نوع ما» مع وزير الدفاع.

معلومات

في يوم من أيام الأسبوع الأول من أكتوبر (2002) اتصل وزير الخارجية «كولن باول» بمستشارة الأمن القومي للرئيس «بوش» السيدة «كونداليزا رايس»،  ورتب معها اجتماعا على غداء لا يحضره غيرهما، وبالفعل وقع الاجتماع على الغداء في الجناح الخاص بوزير الخارجية في مبنى الوزارة المشهور باسم («فوجي بوتوم»).

وفيما هو متاح من التفاصيل فإن وزير الخارجية قال لمستشارة الأمن القومي ما مؤداه "إنه يشعر بأزمة تضارب ولاءات فولاؤه للرئيس لا يحتاج منه إلى تأكيد، وولاؤه لعمله يستطيع الرئيس تقديره، كما أن ولاءه لوطنه يشهد عليه تاريخ طويل في الخدمة العامة، وأخيرا فإن ولاءه للمؤسسة التي أفنى فيها عمره (يقصد القوات المسلحة) مستغن عن أي شرح".

ومضى إلى "أنه حاول منذ أسندت إليه وزارة الخارجية أن يؤدي واجبه، لكنه هذه اللحظة يشعر أنه وصل إلى موقف قد يضطره إلى ما لا يريد، وأنه لو كانت الظروف عادية لقدم استقالته للرئيس حتى يحافظ على ولاءاته كلها سليمة ومتسقة، مع علمه بأنه إذا قدم استقالته يرتاح ويريح آخرين يتصورون أنهم انفردوا بالمكتب البيضاوي وحجبوا غيرهم عن الوصول إليه إلا أنه الآن (باول) لا يجد كملاذ أخير إلا أن يطلب مقابلة الرئيس وحده لحديث من القلب إلى القلب، وهو يطلب بصداقة وثقة متبادلة بينهما (باول وكونداليزا رايس) أن ترتب لإجراء مثل هذا الاجتماع، وأن تبلغ الرئيس «جورج بوش» نقلا عنه: "إنه في حاجة إلى جلسة خاصة معه لا يحضرها غيرهما"،  ويظهر أن «باول» شرح لكونداليزا رايس بعض أسبابه، وأنها اقتنعت على الأقل بضرورة حديث مباشر بينه وبين الرئيس".

وبعد أيام (وعلى الأرجح يوم 16 أكتوبر) اتصلت «كونداليزا رايس» بـ «كولن باول» تبلغه أن "الرئيس ينتظره الليلة على العشاء في الجناح الخاص للبيت الأبيض، وأنهما سوف يكونان وحدهما، وأن الرئيس على استعداد لسماعه بعقل مفتوح وتمنت له حظا سعيدا".

ومساء (الأربعاء) 16 أكتوبر (على الأرجح) وفي الساعة السادسة والنصف كان «كولن باول» يدخل بابا جانبيا للبيت الأبيض يؤدي مباشرة إلى الجناح الخاص الذي يعيش فيه الرئيس مع أسرته!

وفيما هو مُتاح من التفاصيل فإن الرئيس «بوش» بادر وزير الخارجية حين دخل عليه غرفة المعيشة المجاورة لغرفة الطعام الخاصة مبديا ملاحظة عن نتائج استفتاء جرى في العراق على «تجديد» رئاسة «صدام حسين»،  وكانت هذه النتائج قد وصلت إليه قبل قليل، وكانت ملاحظة «بوش» بما معناه "هل رأيت مثل هذا الجنون؟!... «صدام» حصل على أصوات 100% من أصوات الشعب العراقي"،  ثم أضاف أنه لا يعرف "كيف يصنع هؤلاء الناس مثل هذه النتائج؟" وزاد ضاحكا "علينا في المرة القادمة (انتخاباته هو للرئاسة سنة 2004) أن نطلب خبراء من عندهم!!"،  وضحك الاثنان عاليا (ويبدو أن «جورج بوش» أراد تخفيف توتر «باول» لأنه أحس «أنه مشحون بما يريد قوله له»!).

وبدأ «باول» بمقدمة قريبة مما سبق وقاله لكونداليزا رايس، وأبدى «بوش» "أنه سمع من «كوندي» وأنه من جانبه يريد أن يؤكد ثقته بوزير خارجيته الذي اعتبره دائما عمودا قويا راسخا « Pillar» من أعمدة إدارته، وهذا أيضا رأي «ديك تشيني» نائب الرئيس، (ولم يكن ذلك دقيقا، لأن «ديك تشيني» كان باستمرار أقرب إلى «رامسفيلد» ومجموعته الإمبراطورية).

وقال «باول» ما مؤداه: "إنه يريد أن يتحدث مع الرئيس في موضوع واحد وهو «القيمة المعنوية المطلوبة ضروريا» لأي عمل عسكري تقوم به الولايات المتحدة في العراق، وهو بصفة عامة يفهم ويقدر ويؤيد الأسباب التي تدعو إلى التعامل بشدة وحزم مع نظام «صدام حسين»،  فهذا النظام بالتأكيد لابد له أن يسقط وذلك موضوع لا يختلف هو عليه مع أحد وإنما الخلاف على الأسلوب.

واستطرد «باول» "بأنه كان في «نيويورك» طوال هذا الأسبوع يشارك في مداولات الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد رأى أشياء وسمع أشياء تخص موقف الولايات المتحدة في مجتمع الدول، ثم إنه بعد ذلك عاد إلى «واشنطن» وفي العاصمة رأى وسمع أشياء أخرى تخص موقف القوات المسلحة الأمريكية والمهمة الموكولة إليها في العراق".

وفي رأيه أن هناك صلة بين الاثنين، بل إنهما في الواقع موضوع واحد وليسا موضوعين منفصلين!".

استطرد «باول» يحكي عما رأى وسمع في «نيويورك» وملخص ما عنده في هذا الصدد:

"أن الولايات المتحدة بتصميمها على المضي في حرب ضد «صدام حسين» دون قرار من الأمم المتحدة وفي وجه معارضة ظاهرة في مجلس الأمن تلح على وجوب صدور قرار جديد عن المجلس يُظْهِر حزم المجتمع الدولي إزاء النظام العراقي إذا اعترض عملهم.

بينها: أن الولايات المتحدة سوف تبدو في حالة تحدٍ لمجلس الأمن وللميثاق، وذلك يؤثر على مشروعية عملها في العراق، ويأخذ من قيمته، ويظهره وكأنه مسألة طمع إمبراطوري في ذلك البلد أو في موارده، وذلك مسيء للولايات المتحدة.

وبينها: أن ظهور مثل هذه المعارضة من جانب أصدقاء للولايات المتحدة وحلفائها، سوف يؤثر على «أخلاقية» التصرف الأمريكي، إلى جانب التأثير على قانونيته، وذلك يغذي موجات المعارضة الشعبية للسياسة الأمريكية، وهي الآن تزداد اتساعا حتى في أقرب العواصم الأوروبية إلينا «لندن».

وبينها: أن هؤلاء الأصدقاء والحلفاء الذين يظهرون المعارضة ضدنا في مجلس الأمن لا يفعلون ذلك "لأنهم اكتشفوا مرة واحدة أنهم يكرهوننا"،  وإنما هم يفعلون ذلك بتأثير حرص يبدونه (سواء كانوا صادقين فيه أو منافقين) على قواعد استقرت في ممارسات النظام الدولي، وفي تقديره وهذا حساب خبراء وزارته (الخارجية) "أن هؤلاء جميعا يمكن أن يتماشوا مع قرار أمريكي صارم ضد العراق إذا جرى اتباع الإجراءات التي استقرت عليها الممارسات في الأمم المتحدة ووفق الميثاق".

وبينها: أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى «لوي» ذراع أحد، بل إنها تستطيع بقليل من الجهد أن تحصل على القرار الذي تريده من مجلس الأمن، وهو شخصيا (كولن باول) يضمن بعد كل ما أجراه من مشاورات مع زملائه من وزراء الخارجية الذين شاركوا في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة أن المجلس يمكن أن يصدر بالإجماع وبموافقة فرنسا وروسيا وألمانيا وحتى سوريا، وهي العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن قرارا قويا حازما يعطي الرخصة القانونية للقوة الأمريكية تتصرف كما تشاء.

وبينها: أنه يتفهم عدم حاجة الولايات المتحدة إلى حلفاء معها لشن الحرب، لكن الأفضل (وهذا رأي خبراء الخارجية) أن يتم ما يلزم إتمامه في العراق بواسطة تحالف دولي واسع، ويرى أن ذلك هو الإطار الأمثل رغم كل ما يعرفه هو بالتجربة الشخصية من صعوبة «إدارة العمل في نظام تحالفات».

قال «باول»: إن ذلك سوف ينقله إلى النقطة الأخرى وهي متصلة به، لكنها تخص القوات المسلحة للولايات المتحدة الأمريكية.

ثم استطرد في هذا الصدد بما مؤداه:

"إنه لا يريد أن يتدخل في الشأن العسكري بوصفه محاربا قديما لكنه الآن وكسياسي يجد نفسه مضطرا إلى استذكار ماضيه القريب، والاعتماد على التجربة التي تعلمها وإنما يثير قلقه أنه أحس بأصداء قوية في واشنطن نتيجة لما يجري في «نيويورك»،  وفي بقية العالم من معارضة للسياسة الأمريكية في أسلوبها الراهن".

استطرد «باول»:

"إن أول درس تعلمه في الخدمة العسكرية أن القوة الأمريكية دائما في خدمة مبدأ، وهذا المبدأ يلزمه دائما غطاء قانوني وغطاء أخلاقي". ثم إن الولايات المتحدة حاربت باستمرار من أجل مبادئها ومع حلفاء لها يشاركونها نفس المبادئ.

وكان اتحاد هذين العنصرين: المبدأ والتحالف هو الذي أعطى للقوات المسلحة الأمريكية أفضل أسلحتها أي معنوياتها وإيمانها بما تفعل.

وأشار «باول» إلى أمثلة:

في الحرب العالمية الأولى كنا نحارب من أجل الحرية، ومع حلفاء لنا، وانتصرنا. وفي الحرب العالمية الثانية كنا نحارب ضد النازية والفاشية ومع حلفاء لنا وانتصرنا وحتى في «كوريا» بعد الحرب العالمية الثانية فإننا حاربنا تحت علم الأمم المتحدة.

أضاف «باول» «أنه حين انفردنا بالعمل وحدنا في «فيتنام»،  فإن النتيجة كانت ما يعرفه الجميع.

وأمامنا هذه المرة في العراق خيار صعب، من ناحية نحن نستطيع شن الحرب على العراق وحدنا لكننا في هذه الحالة سوف نكون بغير عنصرين أساسيين:

غطاء قانوني وأخلاقي يغطي العمل العسكري.

وتحالف معنا تبدو فيه الحرب مسؤولية مشتركة مع أصدقاء لنا في الموقف.

أضاف «باول» أنه خلال الأسبوع الأخير في «واشنطن» بعد عودته من «نيويورك» أحس بالقلق الذي يساور هيئة الأركان المشتركة بسبب «الانكشاف المعنوي للتدخل العسكري».

وأكد «أن أحدا من هيئة أركان الحرب المشتركة لم يتصل به ولم يصارحه بهمومه، لكنه من تأثير خبرة عمره شعر بأن القوات لديها أزمة».

أضاف «باول»:

«إنه بالنسبة للسياسة فإن الغطاء القانوني والأخلاقي لعمل عسكري يكون مطلبا مرغوبا فيه، لكنه بالنسبة للعسكريين قضية أكثر دقة وحساسية، لأنه بدون الغطاء القانوني والأخلاقي يتحول القتال إلى مجرد قتل، لا يختلف فيه جنرال على كتفه أربعة نجوم عن مرتزق يمسك في يده بسكين، وهذه مسألة بالغة الدقة ويتعين عليه «بوش» بوصفه القائد العام للقوات المسلحة أن يضعها في اعتباره، لأن الغطاء القانوني والأخلاقي بالنسبة للقوات المسلحة ليس مسألة إجراءات شكلية، لكنه مسألة ضرورة تميز (في أداء المهمة) بين أن يكون المحارب مقاتلا، وبين أن يكون المحارب قاتلا، أي أن المشروعية هنا هي المبرر الحقيقي لكل ما تفرضه الحرب على الرجال!

عندها انتهى «باول» من كلامه، كان واضحا أنه استطاع إقناع «جورج بوش» بما عرضه عليه، وفي تقدير أقرب مساعدي «باول» «أن النقطة التي تخص القوات المسلحة الأمريكية كانت العامل الحاسم في تحول موقف الرئيس».

رواية

[هناك رواية أخرى ترددت أمامها، فقد أحسست بشىء من الافتعال فيها حتى باعتبار حساسية العلاقات بين «كولن باول» (وزير الخارجية) و«دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع) ومع ذلك فقد وجدتها دالة في حد ذاتها على أجواء واشنطن السياسية ذلك الوقت وإلى الآن بصرف النظر عما إذا كانت التفاصيل كاملة أو أصابها التحريف.

وملخص الرواية أن «كولن باول» بعد أن طلب من «كونداليزا رايس» (مستشارة الرئيس للأمن القومي) ترتيب مقابلة خاصة بينه وبين الرئيس، بعث لها قصاصة بمقال رآه في جريدة، ويحتوي على عرض لديوان شعر تنشره «دار سيمون وشوستر» الشهيرة بنيويورك، والشاعر هو «دونالد رامسفيلد» نفسه الذي لا يعرف كثيرون أنه شاعر له ديوان يصدر في موسم النشر الجديد (أكتوبر 2003).

وفي هذه القصيدة التي نُشرت مبكرا من الديوان في جريدة «كريستان ساينس مونيتور»،  يقول الشاعر «دونالد رامسفيلد» بالنص:

«كما نعرف

فهناك أشياء لا نعرفها

بعضها نعرف أننا لا نعرفه

وبعضها الآخر لا نعرف أننا لا نعرفه

الأشياء التي لا نعرفها لا نعرفها

والأشياء التي نعرفها قد لا نعرفها!».

وبجوار هذه القصاصة كتب «كولن باول» بخط يده (ولعله أراد تذكير «كوندي» بطلبه):

«إذا كنا لا نعرف ما يجري في رؤوسنا، فكيف لنا أن نزعم معرفة ما يجري في العالم!»]

متابعة

في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني كان «كولن باول» يقود ما أسماه هو «معركة مصداقية» في مجلس الأمن.

وقد يختلف الناس هنا في نسب هذه المصداقية: وهل مصداقية «كولن باول» أمام الأمم المتحدة (القانون والمبدأ)، أو أنها مصداقية «كولن باول» أمام الرئيس «جورج بوش» (الغطاء والملاءمة).

وعلى أية حال فقد بدا «كولن باول» في مجلس الأمن مقاتلا شديد المراس في طلبه إلى مجلس الأمن إصدار «قرار قوي» إلى درجة الصرامة ضد العراق، ومع أنه واجه معارضة شديدة أثناء إعداد مشروع قرار يحظى بموافقة إجماعية فإنه مارس جهدا امتزج فيه الحزم والمرونة مع فنون الصياغة مع تلميحات إلى عهود ووعود يمكن تفسيرها باعتبارها نوعا من التعهد بالرجوع إلى مجلس الأمن مرة أخرى قبل التصرف النهائي وقد نجح في النهاية.

وفي هذه الأجواء يوم 8 نوفمبر صدر قرار مجلس الأمن 1441 الذي يفرض على العراق عودة المفتشين، ويأمر النظام فيه بفتح كل الأبواب أمامهم «دون عوائق»،  ويعطي لرئيسهم «هانز بليكس» مهلة ثلاثة أسابيع لا تزيد لكي يعود بتقرير إلى مجلس الأمن عن مهمته الأولية في العراق، وهل وجد تعاونا كاملا وأبوابا مفتوحة في أي لحظة وأي مكان، أو أن هناك عراقيل توضع في وجهه، وفي وجه زميله الدكتور «محمد البرادعي» (رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية) وكان التلويح باستعمال القوة يرن في كل فقرات القرار وتعبيراته.

وكان اللافت للنظر أن «سوريا» وهي العضو الوحيد العربي في مجلس الأمن وافقت على القرار.

[ويقول الوفد السوري أن دمشق وافقت بعد أن تلقت تأكيدات بأن صبغة الحزم الطاغية على القرار كانت تهدف إلى «تخويف العراق» بحيث ينصاع، وتمر الأزمة هذه المرة بسلام كما حدث في مرات سابقة، ولم يكن في الحسبان ووفق التطمينات التي أعطيت للوفد السوري أن القرار تفويض مفتوح للولايات المتحدة تتصرف بالسلاح كما يحلو لها].

وفي اليوم التالى لصدور قرار مجلس الأمن (1441)، أعلن في بغداد أنه سوف يُعرض على المجلس الوطني العراقي ليرى فيه رأيه.

ووقف الرئيس «جورج بوش» في مؤتمر صحفي ليعلن أن انصياع العراق دون قيد أو شرط لقرار مجلس الأمن مسألة لا تتعلق بإرادة أحد في العراق يقبل أو يرفض. وأن أمام «صدام حسين» أسبوعا واحدا لكي يعلن امتثاله بالكامل لقرار مجلس الأمن ودعوة المفتشين ليقوموا بمهمتهم من دون عوائق، وإلا فإن الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بحق التصرف بالقوة دون انتظار.

وفي واقع الأمر فإن الرئيس «جورج بوش» في تلك اللحظة لم يكن يوجه إنذارا إلى «صدام حسين»،  وإنما كان يوجه رسالة إلى القوات المسلحة الأمريكية، وإلى هيئة أركان الحرب المشتركة، بأنه يعمل جاهدا ليوفر لها الغطاء القانوني والأخلاقي الذي تحتاج إليه.

كان قد اتخذ فعلا قراره بالحرب.

لكن همه الآن كان أن يشعر الضباط والجنود الأمريكيون أنهم في العراق لمهمة قتال وليس لمهمة قتل!

وكانت تلك لحظة تستحق إطالة النظر في التأثير على المستقبل، وبما هو أوسع من حرب على العراق!